لقد كانت حياة أبونا ميخائيل إبراهيم “أيقونة حية للحياة السماوية” فكان قدوة وسند لأبناءه من للآباء الكهنة والشعب وقادهم في طريق الإنجيل بروح الحب والتواضع وكل من تتلمذ علي يديه رأوا سلسلة لا تنقطع من قصص معاملات الله الفائقة معه.
*ولد ميخائيل إبراهيم يوسف في 20 أبريل عام 1899م ببلدة كفر عبده مركز قويسنا منوفية. نشأ في ظلال كنيسة العذراء مريم بكفر عبده. والتحق بمدرسة الكنيسة وفيها تلقى مبادئ القراءة والكتابة والحساب من مرتل الكنيسة. وكان دائم الصلاة والتسبيح وحفظ الألحان وحضور الإجتماعات، إلى جانب اشتراكه في خدمة المذبح.
– في عام 1908 التحق بمدرسة تابعة لجمعية (الترغيب في التهذيب) لإتمام دراسته الابتدائية. وأتم جزءاً من دراسته بمدرسة الأقباط بقويسنا، ثم بمدرسة الأقباط الكبرى بالقاهرة التي أسسها البابا كيرلس الرابع أبو الإصلاح.
– عُين موظفاً بوزارة الداخلية مركز فوه ومركز شبين ثم مركز كفر الشيخ ثم انتقل إلى ههيا ثم إلى الجيزة. كان كثير التردد على كنيسة مار مينا بمصر القديمة حيث التقى بالقمص مينا المتوحد (القديس البابا كيرلس السادس) وكان موضع محبة الشعب والشباب الذين يترددون على الكنيسة بالصورة التقية العجيبة التي تمثلت في شخص هذا الإنسان المتضع (ميخائيل أفندي) الذي يُقبِّل أعتاب الكنيسة وجدرانها وأيقوناتها حتى يصل إلى هيكلها ساجداً عابداً بدموع وورع.
– عندما كان يعمل موظفاً بالجيزة دُعي للكهنوت في كنيسة العذراء مريم بكفر عبده مسقط رأسه. لبى الدعوة ونال نعمة الكهنوت عام 1951 ثم رُقيّ قمصاً عام 1952. وقد أراد تحقيق أمنيته بتطبيق مجانية الخدمات في الكنيسة ولكن لم تلائمه الظروف ففضل أن يبتعد إلى حين عن الكنيسة صوناً لسلامتها معتكفاً لدى أسرته بالقاهرة، متردداً على كنيسة مارمينا بمصر القديمة للتعزية الروحية. إلى أن دعاه القمص مرقس داود للخدمة بكنيسة مار مرقس بشبرا عام 1956، وكان يسافر بين الحين والآخر قاصداً كنيسة كفر عبده ليقدم للطلبة واليتيمات ولجميع أخوة الرب المساعدات السخية في جميع المناسبات.
*خدمته في كنيسة مار مرقس بشبرا:
هيأت الحكمة الإلهية أن يقطن القمص ميخائيل إبراهيم بجوار كنيسة مار مرقس بشبرا، وقد سمع القس مرقس داود بتقواه وفضائله فسعى للتعرف عليه وزاره فى مسكنه، وفي أحد المرات قام القس مرقس داود بصلاة القداس الأول وكان مكلفاً بالقداس الثاني أحد الأباء الرهبان الذي لم يحضر لعذر طارئ، ولكن عمل الله لم يتعطل إذ لمح أبونا مرقس القمص ميخائيل إبراهيم في ركن بالكنيسة فعرض عليه الخدمة فقبل الدعوة، وبعد انتهاء القداس عرض عليه أمر الخدمة المؤقتة بها فلم يمتنع، وقد جذب بحكمته أفواج الشباب وأصبحت الكنيسة بفضل كاهنيها المثاليين كخلية النحل وقيل عنها (الكنيسة التي لا تنام) ومازالت إلى الآن ببركة صلوات هؤلاء القديسين.
– أبونا ميخائيل رجل إيمان ورجل صلاة، يصلي قبل كل شيء وقبل أى عمل يُقدم عليه مهما كان صغيراً أو كبيراً، صلاة مصحوبة بالمطانيات، أسماء أولاده وأصحاب المشاكل مكتوبة على المذبح لكي يتدخل الرب الإله فيها. وكان يردد مزمور داود النبي دائماً أما أنا فصلاة، كان ممتلئاً من الروح القدس وخاضعاً لإرشاده فلا يعطي فرصة واحدة لنفسه للتكلم بل كان المتحدث دائماً على لسانه هو روح الله القدوس، فكان صوت الله يُسمع من خلال هذا القديس. وفي خدمته كشماس في الهيكل كان من وقت ارتداء ملابس الخدمة يمسك بيده اليمنى الصليب رافعاً إياه فوق رأسه لا ينزله مطلقاً عن هذا المستوى طوال خدمة القداس وكان لا يجلس مطلقاً حتى أثناء تلاوة الرسائل أو أثناء العظة بل يظل واقفاً رافعاً صليبه بأقصى ما يستطيع.
*محبته لصلاة القداس وأمانته في العمل
– حينما كان علمانياً “قبل أن يتم سيامته كاهنًا” كان يهتم بيوم الرب “الأحد” و يداوم على حضور القداس قبل أن يذهب إلى عمله، و في يوم من أيام السبت حضر اميرالاى “مفتش من الوزارة” وتم التنبيه بأنه سيقوم بالتفتيش في اليوم التالي “الأحد” الساعة الثامنة صباحاً، و طلب من ضابط المباحث التنبيه على كاتب الضبط، وكاتب الإدارة وكاتب الخفر “ميخائيل أفندي” للإستعداد للتفتيش وإحضار الدفاتر والسجلات في تمام الساعة 8 صباحاً، وفي تمام الساعة الثامنة حضر الجميع فيما عدا ميخائيل أفندي الذي ذهب للكنيسة. وعندما سأل عنه المفتش وعلم أنه في الكنيسة بالرغم من التنبيه عليه؛ ثار جداً وأرسل شخص يستدعيه من الكنيسة، فعاد الشخص قائلاً أن ميخائيل أفندي يصلي ولا يستطيع الحضور وأرسل له مرة ثانية ولم يحضر، فغضب جداً، وفي حوالي العاشرة حضر ميخائيل أفندي وكعادته كل أحد قبل أن يصل إلى مكتبه مر على المسيحيين خصوصاً الذين تغيبوا عن الكنيسة سأل عنهم ووزع عليهم لقمة البركة، فعل ذلك بهدوء واطمئنان وسلام داخلي عجيب على الرغم من معرفته بوجود المفتش واستدعائه له عدة مرات. ثم دخل مكتبه وهو يرشم نفسه كعادته بعلامة الصليب ثم حمل ملفاته وذهب بها إلى المفتش ورفع يده بالتحية بصوته الهادىء وإذ بالمفتش يصرخ فيه “لقد أرسلت لك عدة مرات لماذا لم تحضر”، فأجاب “لقد كنت أمام الملك الكبير و لم يسمح لي بالانصراف إلا الآن وسعادتك ما تزعلش نفسك، اعمل تحقيق ووقع عليّ الجزاء الذي تراه”، فصرخ فيه المفتش “أنت يا رجل تعرف ربنا؟ لو كنت تعرف ربنا كنت تعطي ما لقيصر لقيصر وما للـه للـه. فابتسم ميخائيل أفندي قائلاً “أنت يا سعادة البيه عارف ما لقيصر لقيصر وما للـه للـه؟ النهارده يا بيه بتاع ربنا مش بتاع قيصر”. فهاج عليه المفتش قائلا “كيف تكلمني بهذه الطريقة؟” و دخل بسرعة للمكتب المقابل وكان مكتب المأمور الذي كان سامعاً لكل الحديث وأمسك المفتش بالتليفون ليتصل بمدير المديرية ليعمل تحقيقاً مع ميخائيل أفندي لمجازاته، فما كان من المأمور بالرغم من أنه أقل من رتبة الاميرالاى إلا أنه منعه من التكلم بالتليفون قائلاً “لا تتصل بتليفون مكتبى لمجازاة ميخائيل أفندي، إذا أردت الاتصال اذهب و تكلم من عند عامل التليفون” فرفض المفتش إذ وجدها إهانة وطلب سيارة تقله للذهاب للمدير فرفض المأمور إعطائه سيارة يستخدمها في مجازاة ميخائيل أفندي قائلا “تستطيع أن تستأجر سيارة” وفي الحال أخذ المأمور سيارة المركز وذهب لمقابلة مدير المديرية (المحافظ) وهو ثائر على الإهانات التي وجهها المفتش لميخائيل أفندي وقال “أنا أعطيت ميخائيل أفندي إذن أن يحضر كل يوم أحد الساعة العاشرة، ياريت كل الناس مثل ميخائيل أفندي في أمانته وطهارة سيرته ونقائه. وبعد قليل حضر المفتش وحدثت مشادة بينه وبين المأمور أمام مدير المديرية وفصل المدير في الأمر بأن قدم حلاً وسطاً حتى يرضي المفتش وهو نقل ميخائيل أفندي إلى مركز آخر بدون أن يجازى. ولكن هذا التصرف لم يعجب المأمور قدم تظلماً لكي يبقى ميخائيل أفندي الذي كانت سجلاته أدق السجلات وبسبب دقتها كان العمل منتظما بمركز بلبيس، إلا أن ميخائيل أفندي، لأنه كان صانع سلام ترجى المأمور ليوافق على نقله و قال له “لا أريد أن أكون سبباً في شجار أو خصام بينكما”. وتحت إلحاحه وافق المأمور وصدر قرار بنقله إلى ههيا، وكان يقول للجميع “لابد أن اللـه له حكمة في إرسالي إلى ههيا” وفعلاً كان سبب بركة كبيرة لأهل ههيا وله معهم معجزات كثيرة هناك.
– حينما كان يدخل ميخائيل أفندي لتقديم أوراق مصلحية للسيد مأمور المركز كان يرشم علامة الصليب بوضوح قبل دخوله وحينما يسأله المأمور عن ذلك كان يجيب ببساطة “لكي أجد نعمة في عينيك يا سيادة المأمور” فيشجعه المأمور على شدة إيمانه بإلهـه. وأراد بعض الناس أن يشوا به لدى مأمور آخر فطلب منه عدم رشم الصليب أثناء دخوله وحاول أن يلقي عليه مسئوليات ضخمة لكي يقع في أي خطأ فيجازيه ويتسبب في نقله أو فصله. لكن المأمور حينما عاد لمنزله مرض ابنه الوحيد مرضاً شديداً ورأت زوجته في منامها سيدة تلبس ثياباً بيضاء نورانية تقول لها “مالكم ومال ميخائيل؟” فقامت الزوجة مذعورة لتسأل زوجها “من هو هذا الإنسان الذي تظلمه فاستدعاه المأمور ليلاً لكي يصلي على ابنه ليقوم الابن معافى.
بعد 6 أشهر من استلامه عمله الجديد في ههيا مرض له ولدان وتوفيا في يوم واحد وخرج الصندوقان خلف بعضهما. ولكن ميخائيل أفندي كان متعزياً يقول “أحمد اللـه أن لي ولدين في السما، ياريتني أحصلهم وأكون معهم في فردوس النعيم”.
جلس إليه شخص غير مسيحي وكان يعمل صرافاً وأخذ يبدي إعجابه به ثم قال له “آه يا ميخائيل أفندي، آه لو تيجى عندنا” فسأله وماذا يعجبك في شخصي؟ وحالما سمع الرجل هذا السؤال حتى طفق يعدد فضائله التي كان فعلاً يتحلى بها فقال له ميخائيل أفندي”انت عارف الحاجات دى أنا جبتها منين؟” فقال له “منين؟” أجابه “من عند المسيح بتاع النصارى، يوم ما أسيبه تسيبنى”.
*محبته لإسبوع الآلام
-في أسبوع الآلام كانت لا تفوته ساعة من سواعي البصخة المقدسة يعيش في عمله و بيته مع سيده في آلامه ساعة بساعة إلى أن يأتى خميس العهد فيتناول من الأسرار المقدسة ويظل صائماً صوماً انقطاعياً إلى أن يتناول في قداس سبت الفرح فجر الأحد. و يظل طوال الثلاث أيام نشيطاً كما هو بالروح لدرجة أنه كان يقضي طوال يوم جمعة الصلبوت راكعاً على ركبتيه خلف أيقونة المصلوب ووجهه إلى الهيكل، فتحسبه قديسا راكعاً تحت الصليب. وبعد إتمام صلاة الدفنة داخل الهيكل وتلاوة المزامير مع اخوته، يبدأ جولة جديدة مفتقداً الأرامل واليتامى والمحتاجين بالبركات التي تكون قد وصلت إليه خلال الصوم المقدس، يطرق أبواب إخوته في ظلام الليل موزعاً الخيرات ليسعد الجميع بقيامة الفادي.
* مواقف في حياة أبونا ميخائيل إبراهيم
– في عطلة صيفية حضر إليه ابناه من القاهرة وعلم أنهما لم يدفعا ثمن تذاكر السفر فأخذهما إلى محطة ههيا واشترى تذكرتين من ههيا إلى مصر ومزقهما على الرصيف أمام ولديه ليعرفا أن عدم دفع أجرة السفر خطية.
-ذكر أبونا شنودة ماهر الذي كان أبونا ميخائيل أب إعترافه أنه عرض عليه موضوع ما، فبدأ أبونا ميخائيل يقول إرشاده لكنه توقف وصمت في منتصف حديثه، ثم قال له نصلى معاً وبعدها قال له أبونا ميخائيل توجيهاً وإرشاد عكس ما قاله قبلاً تماماً. هذا هو عمل الروح القدس معه.
– ذكر أبونا جورجيوس عطا الله أنه فى يوم 9 مارس 1971 كان أبونا ميخائيل مريضاً بذبحة قلبية وكان ممنوعاً من الزيارة، وكان عندي محاضرة ألقيها في الجامعة الأمريكية فعلمت بخبر نياحة قداسة البابا كيرلس السادس. فذهبت إلى البطرخانة كي ألقي عليه النظرة الأخيرة، وكان جالساً على الكرسي والناس تأخذ بركته، فرجعت بعدها إلى الكنيسة وكنت في حالة إعياء شديد وضيق بسبب رحيل هذا القديس ومرض أبي الروحي أبونا ميخائيل، وفي ظل هذا التعب وإذ بي أجد إبن إبنة أبونا ميخائيل يبلغني بأن أبونا يريد مقابلتي، فذهبت فوراً وقبل دخولي إلى حجرته طلبت مني إبنته بصوت منخفض ألا أفصح لأبونا عن خبر انتقال سيدنا البابا كيرلس حتى لا يتأثر وهو مريض، فدخلت وجلست معه قليلاً ثم حاورني وطلب مني أن أفتح الدولاب الخاص به فأطعته فقال يوجد ظرف به نقود عدها وربنا يسد عني وعنك يا سيدي وقرأت الأسماء الموجودة على الظرف الخاص بإخوة الرب ثم طلبت الانصراف ولكنه طلب مني أن أجلس بعض الوقت، جلست فبدأ ينظر إليّ نظرات غريبة لم أراها منه من قبل، وكأنه منتظر أن أبلغه شيئاً، ولكني لم أتكلم خوفاً على صحته، فقال لي: أنت دريت (علمت) البابا كيرلس وصل قبلنا، فتعجبت جداً حيث لم يخبره أحد قط، وسألته من الذي أبلغك بذلك فلم يرد عليّ، كررت السؤال ثلاث مرات ولكنه لم يرد عليّ، حقاً كان روح الله يرشده ويفصح له عما هو خفي.
*إحتماله الشتائم من أطفال بعض الإخوة المسلمين:
– حكى الأنبا بيمن أسقف ملوي المتنيح قائلا: ” كنت أسير معه مرة في شارع شبرا (و ذلك قبل أن أترهبن) وإذ ببعض الأطفال يصيحون وراءنا بألفاظ نابية فنظرت إليهم إلى الخلف بحدة كي انتهرهم فإذ بأبونا ميخائيل يقول “يا ابنى أنت زعلان ليه إذا كنت أنا فرحان إن ربنا استخدمني لكي يفرح هؤلاء الأطفال” فتعجبت كيف أنه حتى صراخ الأطفال وشتيمتهم حولها إلى سرور في قلبه.
– عندما كان الكرسي البطريركي خالياً علم أبونا ميخائيل بأن البطريرك الجديد هو قداسة البابا شنودة الثالث الذي كان أسقفاً للتعليم، وقد أبلغ ذلك الخبر لأبونا شنودة ماهر وكلفه أن يخبر الأنبا شنودة بذلك. وكان روح الله يرشده ويعلمه بأمور خفية. ويذكر لنا أبونا شنودة ماهر أيضاً أنه كان يريد أن يكرس حياته لخدمة الرب فسأل أبونا ميخائيل في ذلك فقال له أبونا اذهب للشغل، فتعجبت جداً وسألته عن العلامات التي يعطيها الرب للخادم حتى يكرس حياته حسب مشيئة الله – فكان رد أبونا ميخائيل (لما يحصل لك كذا وكذا وكذا) وكانت أشياء غريبة صعبة الحدوث كما يصفها أبونا شنودة، وبعد ثلاثة شهور تم قول أبينا بالضبط فرجعت له ووافق على تقديم استقالتي التي قبلت بسهولة عجيبة نتيجة فاعلية صلاة هذا القديس.
*إيمانه بعلامة الصليب
كان إيمانه بعلامة الصليب إيماناً قوياً جداً، وكل من يقابله كان يرفع يده اليمنى ويرشم علامة الصليب على جبهته فينال هدوء وسكينة وإطمئنان وتذهب عنه كل المشاكل والأتعاب.
– كان يدرك باختبار إنجيلي مدى أهمية التسليم للرب يسوع لكي يدبر حياته كما يليق وفق إرادته، فكان يقبل كل ما يسمح به الرب في حياته من التجارب والألام التى جازت في نفسه خاصة عندما انتقل طفليه فليمون وبولس في آن واحد إلى السماء، ثم انتقل إبنه البكر الدكتور إبراهيم وإنتقلت زوجته الفاضلة إلى السماء، ولكن تعزيات الروح القدس كانت تملأ قلبه. ماذا فعل عندما توفى ابنه؟ حدث أن الدكتور إبراهيم ميخائيل الابن البكر لأبونا ميخائيل كان في الثلاثين من عمره وهو عريساً لم يمضي على زواجه عام واحد وولدت ابنته أن أسره العدو كضابط طبيب في حرب عام 1956، و لما عاد إلى أرض الوطن جريحاً في المستشفى لم يكن يهم الأب عندما عرف أن ابنه يعاني من مرض خطير إلا أن يطمئن على مصيره الأبدي فأسرع في لهفة إلى أحد الآباء يستدعيه إلى المستشفى ليستمع إلى اعتراف ابنه حتى يأخذ الأسرار المقدسة، ولما أتم هذا كله استراح ضميره وحينئذ لم يكن عجيباً أن نراه وقد سار خلف نعش ابنه متعزياً. اشترك أبونا ميخائيل مع الآباء الكهنة في الصلاة على جثمانه وبعد القيام بدفنه أمر المشيعين أن ينتظروا قليلاً حتى يرفع شكره للـه وصلى قائلاً “أشكرك يارب لأنك أخذت وديعتك، الرب أعطى الرب أخذ فليكن اسم الرب مباركاً”. كان ذلك في يوم الجمعة ولم يتأخر أبونا عن القيام بالقداس في يوم الأحد “يوم الثالث”. وقد جاء القس يوحنا شنودة من بلدة قلوصنا بمحافظة المنيا للعزاء وعند مقابلته لأبونا ميخائيل غلبته العاطفة فبكى ولم يتفوه بكلمة واحدة فما كان من أبونا ميخائيل إلا أن اسكته قائلاً “مش إحنا اللى نعمل كده ، لو ابنى انتدب في بعثة علمية لأمريكا مش كنت أفرح؟ إذن أفرح أكثر لما راح السما. إحنا اللي نعزي الناس علشان كده لازم قلوبنا تكون مليانة من العزاء. ولو ان منك نستمد البركة إلا إني اتجرأ وأقول لك عليك البركة تسكت وتبطل بكا.
*علاقته بالقديسين:
كان مرتبط بهم في محبة وصداقة، يتوجه إلى الصور والأيقونات يلقي السلام على كل منهم ويطلب معونتهم ومشاركتهم الفعلية في حل المشاكل لشعبه وأولاده.
*متواضع القلب والفكر
كان يسلك حياته غير متكلفاً يطلب الصلاة من الآخرين. وفي صلاته كان يطلب في اتضاع وانسحاق قلب من أجل نفسه ومن أجل الآخرين قائلاً “سامحني يارب وسامح أخويا”. وكان يعتذر لكثير من الخدام لأنه وبخهم من أجل خطأ ارتكبوه وكان ذ يقول للواحد منهم “سامحني يا ابني هات رأسك أبوسها” وكان يعمل مطيانيات لمن يعنفه على حق.
– في يوم عيد ذهب أحد أبنائه الشمامسة إلى الكنيسة متأخراً وكان يود أن يخدم شماساً ولم يجد تونية ليلبسها فبكى وخرج وعند الباب قابله أبونا ميخائيل وسأله عن سبب بكائه فلما عرف أخذه بيده الحانية ثم دخل وأخرج تونيته الخاصة وقال له: عليك البركة البسها واخدم وماتزعلش. فلما امتنع الشماس قال له “عليك البركة البسها واخدم وافرح لأنه لا يصح أن نحزن في هذا اليوم”.
*حبيب الفقراء والمحتاجين:
كثيراً ما شارك أخوة الرب في موائد المحبة التي كانت تقيمها الكنيسة حيث كان يجلس في وسطهم ووجهه ممتلئ بالفرح والبشاشة. وما أكثر القصص والذكريات التي يرويها خدام الخدمة الإجتماعية من الحب العميق الذي كان فى قلبه نحو إخوة المسيح. وكان دائماً يحتفظ بسرية الحالات وسرية أسماء الذين يقدمون العطايا، وكان دائم الافتقاد لهم وزيارتهم في منازلهم دون أن يجرح مشاعرهم بل يعاملهم بحب واحترام. وكان يوزع بأمانة النذور والبكور على الأسر المحتاجة.
*المرشد الروحى وأب الاعتراف:
كان أباً بكل ما تحويه الكلمة من معنى يسعى نحو الخراف إذا وجد فيها كبرياء ينحني كي يحملها ويرفعها، وكم من خطاه تابوا على يديه، وكم من قادة نالوا منه الإرشاد الحكيم، وكانت أبوته لا تعرف المحاباة أو التمييز لأنها كانت تستوعب الجميع بمحبته وبذله وتضحيته التي بلا حدود. كان يصلي دائماً من أجل أولاده ويكتب أسماءهم ليضعها على المذبح حتى يذكرهم كلاً باسمه وكان يؤمن أن ذبيحة القداس الإلهي لابد أن تحل أي مشكلة توضع عليها لذا كان يضع كل المشاكل أمام الله وقت السجود في القداس قبل حلول الروح القدس. وكان من عادته أن لا يبدأ أي إعتراف ولا يقبل أي كلام إلا إذا صلى أولاً مع المعترف ليرشد الروح القدس ويعمل ويتكلم على فمه. وكان كلما اعترف المعترف بخطيته كان يرد ببساطة وإتضاع “الله يسامحني ويسامحك”. وكان يستمع للمعترف وهو مغمض العينين ويخرج من فمه كلام يتحقق بمرور الوقت. وكان إرشاده يتلخص في كلمة واحدة هي “الصلاة” وكانت صلاته تقتدر كثيراً في فعلها، وكانت مقابلة واحدة معه تكفى لأن تعيد للإنسان رجاءه مهما كانت سقطاته، وكان يشترك مع الخاطئ في حمل الخطية، وكان يردد دائماً “عندي رجاء في ربنا يصنع كذا..”. وكان إرشاده نابعاً من وصايا الكتاب المقدس، كان مرشداً لكثيرين من قادة الكنيسة وأب إعتراف قداسة البابا شنودة الثالث وأساقفة وكهنة كثيرين.
– قال عنه أحد أبنائه الكهنة: “كنت تخدمني وأنت أب وأنا أبنك.. وأنت قمص وأنا قس.. وعندما كنت أقول لك “الطقس يا أبي” كنت تقول لي “الطقس هو المحبة”.
* الإفتقاد:
كان يهتم جداً بالإفتقاد حتى في كبر سنه وشيخوخته، فكان يعطي مساحة عريضة من وقته لزيارة المرضى والحزانى والأرامل والمستشفيات والسجون وأصحاب المشاكل العائلية، وأيضاً كان يهتم إهتماماً شديداً بافتقاد المسافرين بالخطابات الرعوية وزيارتهم قبل سفرهم. كان يصلى قبل الافتقاد ويصلي في الطريق إلى الافتقاد، وقبل أن يقرع الباب يرشم الصليب ويصلي الصلاة الربانية، وقبل أن يتكلم يصلي ويقرأ فصلاً من الإنجيل، ويختم الجلسة بالصلاة ويرشدهم بالتناول من الأسرار بإستمرار.
*علاقته بالكتاب المقدس:
كان الكتاب المقدس ركناً أساسياً في حياة أبينا فكان يلهج نهاراً وليلاً في كلمة الله فهي غذاءه اليومي، فكان يضع خطوطاً تحت آيات معينة وتعليقات في الهوامش، وكأن الكتاب المقدس هو رسالة شخصية من الله إليه.
*عظاته
كانت تتسم عظاته بالبساطة مع العمق كأنه يتحدث مع أهل الريف أو القرية ولكن في نفس الوقت كان الحديث عميقاً جداً يحمل الرسالة والفكرة إلى القلوب والعقول مستعيناً بالآيات الكتابية والقصص وسير القديسين.
*حياة التدقيق
كان يسير بحياة التدقيق إذ كان حريصاً على إتمام صلاة القداس وكل طقوس الكنيسة كاملة دون أن يترك فيها كلمة واحدة. وكان ينصح أولاده بأن تكون حياتهم مثالاً للالتزام والتدقيق في كل شيء. ورغم جديته وروحانياته العالية كان دائم الفرح بشوشاً مبتسماً وكانت الابتسامة تعكس السلام الداخلي الذي يفيض على كل من يتقابل معه.
*إنتقاله
انتقل القمص ميخائيل إبراهيم إلى السماء ودفنه فى الكاتدرائية الكبرى في 26 مارس 1975م بعد رحلة في هذه دامت ستة وسبعين عاماً.
*أقوال البابا شنودة الثالث عن أبونا ميخائيل إبراهيم:
في يوم نياحة أبونا ميخائيل إبراهيم قال البابا شنودة الثالث: “أنه خسارة كبيرة أن نُحرم من هذا القديس، نحن نؤمن أنه لم يمت بل هو إنتقل ولكن لاشك أن هذا المرشد العميق وهذا القلب المحب وهذه الطاقة الجبارة قد بعد عنا، نطلب أن يكون قريباً منا بصلواته وطلباته.
– قال قداسة البابا شنودة في مراسم الصلاة عليه: “عندما طلبت منهم في كنيسة مار مرقس بشبرا أن يدفن هنا في الكاتدرائية أسفل الهيكل الكبير خلف ضريح مار مرقس كان السبب الظاهري الذي قلته لهم هو الآتي: “إن القمص ميخائيل رجل عام ليس ملكاً لكنيسة واحدة وأبنائه في كل مكان، فالأفضل أن يدفن هنا في مكان عام”. أما السبب الحقيقي الذي في أعماقي فهو أنني كنت أريد أن يصير جسد هذا الرجل سنداً لنا في هذا الموضع، نستمد منه البركة. (وهنا بكى البابا، وقام نيافة الأنبا يؤانس أسقف الغربية يكمل الكلمة).
– “إنه شخص من أهل السماء، انتدبته السماء زمناً ليعيش بيننا وليقدم للبشرية عينة صالحة، وصورة مضيئة من الحياة الروحية السليمة. أدى واجبه على خير وجه. عمل على قدر ما يستطيع في صحته وفي مرضه، في شبابه وشيخوخته. في قوته وفي ضعفه، ومازال يعمل كان يعمل كاهناً ومرشداً. والآن أصبح يعمل كشفيع لنا أمام العرش السماوي. فى يوم نياحته كانت عيناه تزرف الدموع على رجل عاش بركة لنا في هذا الزمان، وإنساناً كان فيه روح الله. كان نفساً هادئة مملوءة من الإيمان والطمأنينة، مملوءة من السلام الداخلي. مبتسم الوجه بشوشاً، طيباً يعطي بدون مقابل. يملأ كل من يقابله بالسلام والهدوء. يُخضع مشاكله ومشاكل أبناءه طوع مشيئة الله من خلال الصلاة.
– أعطانا فكرة عن الأبوة الحقيقية، عن الرعاية السليمة، عن الحنان والحكمة التي من فوق التي هي من مواهب الروح القدس.