يستعد يونس العسري بداية السنة الجديدة لرحلة إنسانية أخرى، ضمن مشروع «سقيا عطاء». الوجهة ستكون هذه المرة إقليم الحوز، وسط المغرب، والهدف ربط سكان ثلاث قرى نائية بموارد الماء.
ودأب يونس رفقة أصدقائه في مؤسسة «عطاء الخيرية»، على شد الرحال طيلة السنة نحو القرى البعيدة في المغرب. يقطعون آلاف الكيلومترات ويجتازون المسالك الجبلية والطرق الوعرة. حافزهم في ذلك، رؤية أعين الكبار والصغار تنفجر فرحا، لحظة انفجار الأرض ماء.
فكرة مشروع «سقيا عطاء» لسيت وليدة الصدفة، بل هي حصيلة سنوات من العمل الإنساني التطوعي في القرى البعيدة، حيث عاين المتطوعون الشباب افتقارها للماء وشهدوا محنة الأهالي للحصول على هذا المصدر الأساسي للحياة، يقول يونس العسري، مدير مشروع «سقيا عطاء»، إحدى برامج مؤسسة «عطاء الخيرية» لـ»سكاي نيوز عربية».
وقد تسبب شح الأمطار وقساوة الطبيعة في ندرة مياه عدد من القرى، وبات قدر أبنائها وبناتها أن يتحملوا الصعاب في كل يوم، قاطعين مسافات طويلة ذهابا وايابا، للبحث عن هذه المادة الحيوية التي تبقيهم على قيد الحياة.
الانطلاقة والتمويل
في سنة 2016 قرر الشباب المتطوعون إطلاق مشروع «سقيا عطاء» الذي يروم تزويد ساكنة القرى بالماء الشروب، وربط منازلهم بقنوات المياه.
يقول يونس العسري: «رغم قلة تجربتنا في مثل هذا المجال وقلة إمكاناتنا، قررنا رفع التحدي وخوض التجربة، فكانت الانطلاقة».
ويعتمد الشباب في تمويل مشروعهم «سقيا عطاء» على مساهماتهم الشخصية وتبرعات متابعيهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تخصص المؤسسة حوالي 90 في المائة من مداخليها لهذه المبادرة الخيرية.
وتقدر التكلفة الإجمالية لحفر البئر الواحد بمبلغ يترواح ما بين 60 إلى 80 ألف درهم مغربي، (6000 إلى 8000 ألف دولار)، يقول المشرف على «سقيا الخير».
وأضاف أن «هذه الميزانية تشمل حفر البئر وتجهيزه بمضخة وبعداد كهربائي إلى جانب بناء خزان مائي لربط المنازل مباشرة بالماء».
ويتابع: «عادة ما تنجز الشركات المتخصصة مشاريع مماثلة بمبالغ كبيرة، لكننا في المؤسسة نحصل على أثمنة تفضيلية».
معايير اختيار القرى
يعتبر اختيار القرية المستهدفة نقطة فارقة بالنسبة للشباب المتطوعين لأن نجاح مهمتهم يرتبط أساسا بالوصول إلى الماء في تلك المنطقة. لذلك يتم الاختيار بعناية فائقة ووفق معايير دقيقة، وعلى رأسها حاجة ساكنة القرية الملحة للماء، مع التدقيق في عدد الأسر المستفيدة ومصدر تزودها اليومي بالماء.
كما تتطلب العملية إنجاز دراسة مفصلة عن المنطقة قبل مباشرة أشغال الحفر، مع البحث عن طرق للتزود بالكهرباء أو الطاقة الشمسية، الكفيلة بضخ الماء لكل منازل القرية.
يقول يونس في هذا الإطار «نحرص على اختيار القرية بعناية كبيرة وعلى أن يكون هامش الخطأ شبه منعدم، لأن حفر البئر قد لا ينتهي بالضرورة إلى اكتشاف الماء، لذلك ينصب اهتمامنا على القرى التي تتوفر على مخزون جوفي من المياه».
ويضيف: «هناك مناطق جافة، يتطلب التنقيب على الماء فيها ميزانية ضخمة، وهو ما يستدعي في هذه الحالة تدخل الجهات الرسمية المختصة».
ويتوفر المغرب على برنامج وطني للتزود بالماء الصالح للشرب ومياه السقي للفترة ما بين 2020-2027 بكلفة إجمالية تصل إلى 115 مليار درهم مغربي (حوالي 12 مليار دولار)، يهدف إلى ضمان الأمن المائي على المدى القصير والمتوسط، من خلال تسريع وثيرة الاستثمارات في قطاع الماء، وإيجاد حلول مهيكلة لتطوير هذا القطاع.
ويتمحور هذا البرنامج على مجموعة من الإجراءات، تتوزع على خمس محاور من ضمنها تنمية العرض المائي، وتدبير الطلب واقتصاد اتثمين التزويد بالماء الصالح للشرب بالمجال القروي، وإعادة استعمال المياه العادمة المعالجة.
التنقيب عن الماء
بعد مرحلة اختيار المنطقة المستفيدة التي يعتبرها المتطوعون من أصعب مراحل المشروع، ينتقل الشباب إلى تحديد مكان عملية حفر البئر ونقطة التنقيب عن الماء، في تحدي آخر يتطلب الكثير من الدقة.
«بالرغم من كل الاحتياطات والوسائل المعتمدة للتنقيب فإن احتمال الفشل في الوصول إلى الماء وارد دائما»، وفق يونس العسري.
ويتابع المشرف على مشروع «سقيا عطاء» أن «كل الطرق المعتمدة قبل بدأ عملية الحفر سواء التقليدية باستخدام غصن الزيتون أو الحديثة بالاعتماد على مهندس متخصص، تبقى غير مضمونة النتيجة».
ويتذكر يونس: «هامش الخطأ في العمليات التي نشرف عليها يكون ضئيلا، فمن بين 180 مشروع أنجزناه لحفر الآبار على مدى أربع سنوات، لم يحالفنا الحظ سوى خمس أو ستة مرات».
صناعة الفرح
أنظار ساكنة القرية تتجه نحو نقطة البداية والنهاية، وهم ينتظرون بلهفة لحظة لقائهم بالغائب المفقود الذي بحثوا عنه طويلا، ومعهم يترقب الشباب أن يعودوا إلى مدنهم البعيدة بقصة نجاح جديدة، بعد أن تجود عليهم الأرض بسر من أسرار الوجود.
يقول يونس، «في تلك اللحظات الأخيرة قبل تفجر الماء، تختلط أحسايسنا بأحاسيس سكان القرية».
وبحلول الساعة التي طال انتظارها تعم الأفراح بين كل القرووين البسطاء، الذين يتحولون في لحظة نشوة إلى أطفال يقفزون ويمرحون تحت المياه المتناثرة ووسط التربة المببلة.