د. راني كرمي – اوتاوا
تكثّف الثقافات وتختزل نفسها في مجموعة من العادات الممارسة ومقولات يكررها الناس. احدى هذه المقولات المكررة في روسيا: “المهم أن لا يكون هنالك حرب”، حفرتها الحرب العالمية الثانية عميقاً في الذاكرة الجماعية للشعب الروسي. وعلى الرغم من تحقيق الانتصار إلا أن ثمنه كان باهظاً جداً على شعوب الاتحاد السوفييتي عامة وعلى الشعب الروسي خاصة. وحتى لا نصدق رواية، حسبما تراها الولايات المتحدة لكثرة تكرارها، ان بوتين شخص عدائي وله نوايا توسعية مرتبطة بحنين للماضي القريب. هناك أسباب موضوعية معروفة أدت إلى حدوث الحرب القائمة في أوكرانيا. فمنذ تفكك الاتحاد السوفيتي ومعه حلف وارسو، حرصت الولايات المتحدة إلى منع تواجد دولة قوية في أوروبا. ولأن روسيا بمقوماتها العريضة، المرشح الدائم لهذا الدور، قامت الولايات المتحدة بحصار روسيا عبر ضم حلفاء الأمس ليصبحوا أعضاءً في الناتو واعداءً للاخيرة. فترتبت قطع الشطرنج اوروبياً بمحاولة ضم جورجيا أولا ثم ضم كييف (التي تقع على بعد اقل من 800 كلم من موسكو) عضواً غير معلن في الناتو وهو ما رفضته روسيا. والحرب في أوروبا هي حرب ليست مثل حروب تقع في آسيا أو أفريقيا. فهذه حرب هزّت هدوءًا أستمر اكثر من 75 عاماً، منذ ان دوّت المدفعية آخر مرة في القارة العجوز (إذا استثنينا الحرب في يوغسلافيا والتي كانت أيضا حربا نتيجة لسقوط الاتحاد السوفييتي).
المقامرة وحساب الربح والخسار
لعلّ المستقبل القريب يكشف لنا أن كانت هذه الحرب قد خُطّط لها لإيقاع روسيا او هي نتيجة معادلات روسية محضة. في حساب الربح الأمريكي، الحرب أوروبياً تنفخ الروح في معنى وجود وشرعية بقاء حلف عسكري مثل الناتو. وافسّر اكثر، ان الناتو قوة عسكرية متعددة الجنسيات (بيضاء العرق) تقودها الولايات المتحدة في اوروبا، حتى عندما انتفى السبب العقائدي أو العسكري لوجودها، الى ان حصلت هذه الحرب الأخيرة في أوكرانيا. بعبارة اخرى، حلم هتلر في الصفاء العرقي لاوروبا قد تحقق عسكريا – ناقصاً الايديولوجيا- والاقتباس للكاتب عامر محسن. اما في حساب الخسارة، فالمساحة لاستقلال أوروبي سياسي -وتحديداً فرنسي- أو اقتصادي – و تحديداً الماني- قد تم اخضاعه بشكل كامل للإمبراطورية ( تذكروا موقف هاتين الدولتين السلبي من الحرب على العراق في عام 2003). اما مقامرة العقوبات ضد روسيا فقد ارتدت لتعاقب العالم اجمع. فالعالم يحصل على الخبز من روسيا، وصناعات أخرى تعقّدت سلاسل إنتاجها وتوريدها بسبب وجود مواد هامة تأتي من روسيا (مثل مادة التيتانيوم لصناعة الطائرات او غاز النيون لصناعة الرقائق الالكترونية) ناهيك عن أزمة الطاقة في أوروبا الآن بسبب هذا الحصار على روسيا.
ومن هنا يأتي التساؤل مُلحاً، إذا كانت الخطة الاستراتيجية منذ عهد أوباما “للاستدارة شرقًا” – وهو الكلام المنمق الذي يعني دعونا نواجه الصين- فمعاداة روسيا منطقياً يبدو شيئا مستغرباً.
لكن على ما يبدو انه في حسابات الإدارات الأمريكية المتعاقبة، أن الجائزة الكبرى هي ربح أوروبا، أما خسارة روسيا فهو شئ يمكن تحمّله. لكن الحق يقال، أن بوتين أيضا قد خسر. فهو خسر خطاب كسب عقول وقلوب الشعب الأوكراني.
فمنذ الانقلاب في اوكرانيا عام 2014 اقنع الغرب كييف بثلاثة أماني غير قابلة للتحقيق:
1- الانضمام إلى الاتحاد الاوروبي.
2- الانضمام إلى الناتو.
3- قيام دولة ليبرالية على المقاس الغربي في أوكرانيا…..أوكرانيا الدولة المصنفّة من الأكثر فسادا وفقرا في أوروبا!
خاتمة
وللإنصاف أيضا، خسارة بوتين لم تقع في العام 2014 بل هي بدأت قبل أن يستلم الحكم في روسيا في العام 2000. فمن عشرات السنين كان هناك نزال مستمر بين الكلمة والصورة، والذي بدوره قد سطّح كثيراً من الأمور والنقاشات في العالم بأسره. فقد نُصرت الإمبراطورية بتعميم الصورة في عقول الناس. فمظاهر الرفاهية و”الحرية” الأمريكية غلبت الكلمة حتى لو كانت عادلة. صورة الهبوط على القمر وقصف بلجراد أو بغداد الوحشي سهلت للإمبراطوريه الهيمنة على قلوب الناس بالإعجاب تارة وبالخوف تارة أخرى. اما الكلام عن اخوة الشعبين والروابط التاريخية والدينية بين روسيا واوكرانيا فلا يقضي على الفقر حتى لو ضخّت روسيا (وهي بالفعل قامت بذلك) أموالا طائلة لحكام أوكرانيا السابقين. فقد خلقت الإمبراطورية – كما قال جوزيف ناي- عبر القوة الناعمة (مؤسسات غير حكومية أو صندوق النقد الدولي أو منظمة التجارة العالمية، الخ) جيلاً جديداً يلهث خلف صورة الرفاه والارتباط بالاستهلاك العالمي عن طريق التبعيّة والارتهان السياسي والاقتصادي. وعلى اختلاف جغرافيا المكان فإن أسلوب الامبراطورية واحد …والّأ فانظروا الى حالنا!