مازلنا فى أسبوع الأبن الضال من الصوم الكبير، وذلك الأسبوع يمثل الإنسان الضال الذى يرغب أن يتحرر من كافة القيود وينعم فى شهوة الخطايا ويترك نفسه فى أحضان إبليس الذي يصور له الخطايا مياه الحياة حتى يتمرد على حياته وتسيطر شهوات قلبه على عقله.
فيجد نفسه محاصر بين أوهام.. غريب فى مكان لا ينتمي له.. مجروح وليس له معين.. غرقان فى بحر الخطايا وليس له من يمد يد المساعدة.. ويطرح السؤال نفسه متى يرجع الإنسان إلى حضن الأب ويعترف أمامه قائلا: “يا أبى أخطأت إلى السماء وقدامك”!.
حرص موقع جريدة وطنى أن يتحدث مع أحد مسئولى الكنيسة كى يوضح الأمر لنا.
قال القمص أبرآم جيد كاهن كنيسة العذراء بعين شمس: مثل الابن الضال يروى قصة الإنسان الحائر بين شهواته وكلام أبيه، ولكن
ضجر من العيشة مع أبيه وبدأ الضلال بفكراً في عقله، فكانت أول كلمة قالها وسجلها لنا الوحي فى القصة: “أعطني”. لم يفكر في انزعاج أبيه لو أنه هجر البيت، ولا اهتم بأن يعرف إرادة أبيه، بل انحصر كل فكره في أن الحياة في بيت أبيه هي مصدر ضجره وضيقه..
فكان ضلاله في أنانيته سابقاً لضلاله في الكورة البعيدة، وكان اتجاهه الفكري السلبي أساس تصرفه المنحرف وشهوات قلبه.. لقد تنكر لمكانه الطبيعي وبيته وماضيه وأبيه ونفسه وإيمانه، وأراد أن يبتعد عن بيت أبيه بقدر ما يستطيع، لأنه ظن أن هذا يحرره، ويجعله شخصاً آخر أسعد حالاً.. ولكن عندما يغترب الإنسان عن أبيه وعن نفسه كما يجب أن تكون، يفقد الأمان، لأن الله خلقنا بهدف معين، فإذا لم نحققه ضاع منا معنى حياتنا.
يظن الإنسان الضال أنه يقدر أن يستقل عن أبيه: رسم الفكر الخاطئ له أوهاماً زائفة، منها أنه يقدر أن يعيش سعيداً بعيداً عن أبيه، فطلب نصيبه من الميراث بدون أن يكون له الحق في طلبه، لأن أباه ما زال على قيد الحياة.. وكان خطؤه أنه اعتبر أباه مصدراً للماديات، يأخذ منه، ولم يعتبره شخصاً ينتمي إليه ويحبه..
وكان يمكن أن الأب يرفض طلب ابنه ويخيره بين البقاء في البيت أو الخروج منه خالي اليدين، ولكن الأب في محبته أراد أن يعلمه درساً مكلفاً لكنه أساسي، فالدروس التي نتعلمها بدون ثمن سرعان ما تنسى، أما الدروس التي تكلفنا كثيراً فتبقى في أعماقنا.. وأراد الأب لابنه أن يتعلم بالطريق الصعب..
ثم أنه لو أجبره على البقاء لحرمه من إنسانيته، ولكانت نتيجة الإجبار تأجيل انفجار ثورة الابن. لهذا منح الأب الحكيم ابنه حرية الاختيار.. مثل ما يمنح الله للإنسان حرية الاختيار فى الطريق الذي يسلكه.
ومن الغريب أن الخاطئ اليوم يحيا بكل ما يمنحه الله له من خيرات، وفي وقت الحاجة يدعوه: «أَبَانَا ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ… خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا ٱلْيَوْمَ» (متى 6: 9، 11)، لأنه يعلم أننا «بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ» (أعمال 17: 28)، ويعرف قول المسيح: «بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئاً» (يوحنا 15: 5).. ولكنه يريد أن يستقل عنه، ويردد قول فرعون: «مَنْ هُوَ ٱلرَّبُّ حَتَّى أَسْمَعَ لِقَوْلِهِ ؟.. لاَ أَعْرِفُ ٱلرَّبَّ» (خروج 5: 2).
_ستخدم مال أبيه استخداماً سيئاً
بحسب الشريعة الموسوية كان للوالد سلطان كامل على ممتلكاته، فكان يمكن أن يسند إدارتها لأولاده، لكنه لم يكن يملكها لهم. ولكن بطل قصتنا كان حكيماً، فأعطى ابنه نصيبه من المال، وترك له حرية التصرف، وسمح له بالبقاء في بيته لفترة باع أثناءها ما أعطاه له..
بعدها حمل مال أبيه، الذي اعتبره ماله، وسافر إلى بلد بعيد، فتجمع حوله أصدقاء السوء، وأخذوا يتملقونه ويسهلون له طرق الغواية، فبذر ماله بإسراف حتى انتهى، فانفض أصدقاؤه عنه.. ولم يجد إلا واحداً منهم سمح له أن يرعى خنازيره.. وواضح أنه غير متدين، لأنه كان يخالف شريعة موسى التي أمرت بعدم أكل لحم الخنزير (لاويين 11: 7 وتثنية 14: 8).
_ الوصول إلى نهاية سيئة
نهاية الاغتراب عن الله خراب ودمار، وهذا ما انتهى إليه أمر الابن الضال وكذلك الإنسان الضال، ففي نهاية المطاف أخذ يتأمل ما وصل إليه: إنه وحيد، رث الثياب، جائع، تفوح منه رائحة الخنازير! وبعد وقت اكتشف أن الخنازير كانت أفضل منه حالاً، لأنها كانت تأكل الخرنوب الذي لا يجده هو ليأكله! لقد انتقل من الغنى إلى الفقر، ومن الكرامة إلى الهوان، ونال الشوك من قدميه، وضاعت منه صورة أبيه، وشعر بالخجل من نفسه.. لكن المؤسف أنه تمادى في الطريق الخاطئ، ولم يفكر في تصحيح مساره.
ومن هنا يا أحبائى اكتشف خطأ التحلل من قيود أبيه: صار الابن الضال سجين اختياره وأسير ذاته، بلا عائلة ولا أصدقاء. وقد وصف أبوه حالته بأنه «ميت وضال» فالضلال موت روحي بالانفصال عن الله، وأبدي بالنهاية المرعبة في جهنم.. كان الابن الضال قد تساءل: لماذا أسير على قضيبين، هما وصاية أبي ونصائحه، يحدان حريتي؟..
ولكنه اكتشف بعد أن خرج عنهما أنه اصطدم بالذل والجوع والضياع، فإنه «تَكْثُرُ أَوْجَاعُهُمُ ٱلَّذِينَ أَسْرَعُوا وَرَاءَ آخَرَ» (مزمور 16: 4).. لم يدرك هذا الابن أن القضيبين نعمة، وأن الحرية المنظمة هي الاستقلال والأمان، فاستيقظ ليرى أنه يحتاج إلى قوانين أبيه وحمايته.. وقادته حاجته إلى تساؤل آخر: لماذا أبقى حيث أنا وعبيد أبي أفضل حالاً مني؟.. وكان فقدان أمله في إصلاح حاله بداية العمل الإلهي في قلبه.
اكتشف قصر لذة الخطية: نعم في الخطية لذة، والذي ينكر هذا يخدع نفسه، لكنها لذة مؤقتة، فالخطية كالماء المالح الذي يزيد شاربه عطشاً..
_ النهوض من الخطايا
نهض فكر الابن الضال، فقال: «أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ».. وهذه بداية الاعتراف الصحيح، لأن إصلاح علاقتنا بالله يسبق إصلاح علاقاتنا بالناس، فكان كمال الاعتراف قوله: «يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ٱبْناً. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاك».
وننظر من هنا أنه كان جالساً في التراب عندما نهض فكره بعد أن جاءه الخاطر الصالح بالرجوع إلى أبيه، فنهضت عزيمته وأطاع، وترك الخنازير التي ترمز إلى الخطايا وأصدقاء السوء، فهي تتمرغ في الوحل وتأكل الفضلات..
ولم يفكر في بعد المسافة التي تفصله عن بيت أبيه، ولم يقف في سبيل عودته عائق!.. وما أن وصل إلى بداية الشارع الذي يقع فيه بيت أبيه حتى رآه أبوه قبل أن يرى هو أباه..
وكانت دهشته شديدة، لأنه انتظر الرفض فلقي الترحيب، وكان يتوقع الإهانة فوجد الخاتم علامة الرضى والإكرام، وألبس الحذاء علامة البنوية (كان العبيد حفاةً فى تلك الوقت).. وكان يظن أن نصيبه سيكون العمل الشاق فوجد الوليمة.. ثم كانت مكافأة التوبة أنه صار ضيف الشرف.. لقد أظلمت حياته وتكدر بيت أبيه بسبب عصيانه، ولكن غفران الأب أنهى الظلام، فضاءات أرجاء البيت بأنوار الحفل المبهج.. فما أجمل الرجوع إلى الآب لأنه الرجوع إلى الأصل.
لذلك دعونا نرجع إلى الله تائبين إن لم نكن قد فعلنا هذا.. ليس أبوك غاضباً عليك، بل هو حزين لبعدك. لا تخف من الرفض. ارجع إليه تلق القبول، وتسمعه يقول: «أَخْرِجُوا ٱلْحُلَّةَ ٱلأُولَى وَأَلْبِسُوهُ، وَٱجْعَلُوا خَاتَماً فِي يَدِهِ، وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ، وَقَدِّمُوا ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ وَٱذْبَحُوهُ فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ، لأَنَّ ٱبْنِي هٰذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالاّ ًفَوُجِدَ».