القاهرة- في 18 مارس/آذار 1827، افتتحت أول مدرسة للطب في مصر والشرق الأوسط، حين كلف محمد علي باشا الطبيب الفرنسي أنطوان كلوت بك، بمهام إنشاء مدرسة الطب في أبو زعبل، قبل أن تنتقل إلى قصر العيني وسط القاهرة.
وكان الغرض أولا من مدرسة الطب تخريج الأطباء المصريين للجيش، ثم أصبح الهدف أن يقدم الأطباء خدماتهم لعامة الشعب، واختارت الحكومة للمدرسة 100 تلميذ من طلبة الأزهر الشريف، وتولى “كلوت بك” إدارة المدرسة والمستشفى، واستقدم لها نخبة الأساتذة من أوروبا أغلبهم من الفرنسيين، وفقا لصحيفة الأهرام.
واليوم تعاني مصر عجزا في عدد الأطباء، مع اتجاه كثير من الأطباء للعمل في دول الخليج العربي وأوروبا، وبينما يرى البعض -ومنهم تصريح سابق لرئيس الجمهورية- أن البحث عن المال هو غاية الأطباء في هجر بلادهم، يرى آخرون أن أسبابا أخرى أهم من المال تدفعهم للبحث عن ممارسة شغفهم خارج حدود بلادهم.
رواتب لا تناسبهم
نهاية فبراير/شباط الماضي، علق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على هجرة كثير من الأطباء للخارج، مشيرا إلى أن الرواتب التي يحصلون عليها في مصر لا تناسبهم.
وأضاف السيسي -خلال فعالية المشروع القومي لتنمية الأسرة المصرية- أن البعض يترك مصر من أجل فرصة عمل في بلاد أخرى، وضرب المثل بالأطباء قائلا “الأطباء اللي (الذين) بيمشوا..هو أنا بديله مرتب كويس ولا مش عاوز أديله (أعطيه) مرتب كويس؟ أنا مش قادر أديله مرتب كويس (جيد)”.
لماذا يهاجر الأطباء؟
وتحت عنوان “لماذا يهاجر الأطباء”، كتبت الطبيبة والناشطة منى مينا أن بعض طلبة كلية الطب يبدأ في دراسة المعادلات الأجنبية التي تُمكِّنه من العمل في الخارج، منذ السنة الثالثة أو الرابعة في الكلية، حتى يستطيع السفر فور تخرجه.
وأشارت إلى ظروف عمل الأطقم الطبية في مصر، لا سيما في المستشفيات الحكومية، من مرتبات شديدة التدني وقلة أعداد الأطباء وكثرة المرضى والإمكانيات الضعيفة والصعوبة في تقديم خدمة طبية مرضية، وتحمل الأطباء غضب المرضى وأهاليهم نتيجة عدم الرضا بالخدمة المقدمة، وضعف إجراءات مكافحة العدوى، مما تسبب مثلا في أعداد رهيبة من وفيات الأطباء المتصدين لجائحة كورونا.
واستنكرت مينا -في مقال نشرته جريدة المصري اليوم قبل أسابيع- أن مطالب الأطباء برفع ميزانية الصحة لتحسين إمكانيات العمل وتحسين أجور الأطباء والفريق الطبي لم تجد استجابة، وأن التحرك الوحيد الذي تراه هو المزيد من التشديد لمنع سفر الأطباء بكل السبل.
وأكدت مينا، أن المشاكل معروفة والحلول موجودة ومعروفة أيضًا، مضيفة “فقط نحتاج لإرادة للحل، بعيدًا عن التفكير العقيم في محاولات منع السفر، التي أدت إلى المزيد من الإحساس بالمرارة، والمزيد من الظروف الصعبة التي تخنق الأطباء ستؤدي بالتأكيد إلى المزيد من نزيف الأطباء”.
إحصائيات
وتشير دراسة للمكتب الفني لوزارة الصحة المصرية أن عدد الأطباء البشريين المسجلين والحاصلين على ترخيص مزاولة المهنة من نقابة الأطباء، باستثناء من بلغوا سن المعاش، يبلغ حوالي 212 ألفا و835 طبيبا، يعمل منهم حوالي 82 ألف طبيب، في جميع قطاعات الصحة، سواء بالمستشفيات التابعة للوزارة أو المستشفيات الجامعية الحكومية، أو القطاع الخاص، بنسبة 38% من إجمالي عدد الأطباء المسجلين والحاصلين على تراخيص مزاولة المهنة، مما يعني تسرب نحو 62% من الأطباء بالمنظومة الصحية.
وتشير إحصائية أخرى لنقابة الأطباء أن نحو 7 آلاف طبيب يهاجرون سنويا بسبب الإجراءات التعسفية ضد الأطباء، كما يستقيل نحو 10 آلاف طبيب من وظائفهم في المستشفيات الحكومية للعمل بعيادات خاصة.
عجز في الأطباء
ونتيجة لهجرة الأطباء، تواجه المنظومة الصحية عجزا في مقدمي الخدمة الصحية في مصر، لا سيما التخصصات التي تحتاج جهدا أكبر وخطورة أعلى في ممارستها، كما يؤكد عضو مجلس نقابة الأطباء إيهاب الطاهر.
ويضيف الطاهر -في تصريحات صحفية- أن الطبيب يواجه العديد من الأخطاء خلال ممارسته لعمله، مثل التعرض المباشر إلى العدوى، وتكرر الاعتداءات عليه من أهالي المرضى، وتحميله عبء نقص أي مستلزمات، إضافة إلى الحالة المتردية لمعظم أماكن إقامة الأطباء بالمستشفيات، وأن نقابة الأطباء قدمت مشروع قانون للبرلمان لتشديد عقوبة الاعتداء على المنشآت الطبية والعاملين بها، لكن هذا المشروع حبيس أدراج البرلمان منذ سنوات.
عجز في التخصصات
ويؤكد وزير الصحة الأسبق عادل العدوي، أن المشكلة ليست فقط العجز في عدد الأطباء مقارنة بعدد السكان، إنما في العجز بتخصصات مهمة جدا في المستشفيات، مثل الرعاية المركزة والطوارئ والتخدير، والتي لا يقبل عليها الخريجون نظرا لعدم إمكانية فتح عيادة خاصة.
ويضيف العدوي -في تصريحات لجريدة الأهرام– أن الأطباء يفضلون تخصصات أخرى مثل المعامل والأطفال والجلدية والتغذية والتخاطب والأنف والأذن وتأخر الكلام والنساء والتوليد.
لا نتعلم شيئا
بينما يؤكد عمرو أحمد -طالب تخرج حديثا في كلية الطب- أن كثيرا من زملائه يدرسون الزمالة البريطانية والأميركية، وبعضهم يدرس اللغة الألمانية، مشيرا إلى أنه وزملاءه يرى أن المنظومة الصحية التي عملوا خلالها في سنة الامتياز لا تعلمهم شيئا، “التعليم الجيد غير متاح أمامنا في المنظومة الصحية”.
وأضاف عمرو -في تصريحات للجزيرة نت- أن ضعف المرتبات ليس سببا أساسيا في هجرة الأطباء، لأن أغلب طلبة كلية الطب يدعمون ماديا من أهلهم، ويساعدونهم كذلك بالإنفاق على المعادلات الأجنبية لشهادة الطب، “المال ليس سببا رئيسيا، أغلب الأطباء يحبون الطب، وإكمال هذا المشوار الطويل”.
ويشير عمرو، إلى أن أسباب الهجرة في وجهة نظره تتلخص في البحث عن تعليم جيد، والحياة غير المضغوطة، والعمل لساعات محددة والحصول على مرتب جيد، مؤكدا أن الأجيال الجديدة لا تبحث عن حلم العيادة الخاصة، ولكن عن الحياة الآدمية المتوفر فيها وسائل طبية جيدة.
أوروبا تفتح أبوابها
ويؤكد عضو لجنة الشؤون الصحية بمجلس النواب عبد المنعم شهاب أن الدول الأوروبية ودول الخليج العربي تفتح أبوابها للأطباء المصريين، بسبب ما تعانيه من عجز في خريجي كليات الطب، وابتعاد الشباب الأوروبي عن دراسة الطب لصعوبته وارتفاع تكلفته.
كما أشار شهاب -في تصريحات صحفية- إلى مهارة الطبيب المصري في التخصصات الدقيقة، مثل جراحات القلب والمخ والأعصاب، مما يجعله هدفا مرغوبا فيه لهذه الدول، ويحصل فيها على أجور مرتفعة مقارنة بأجور الأطباء في مصر.