بعد مرور ما يزيد عن ربع قرن على رحيله عن العاصمة المصرية، أحدثت عودة رجل الأعمال أشرف السعد مؤخرًا إلى القاهرة الكثير من الصخب، واجترَّت معها قصة شركات توظيف الأموال، التي تصدرت واجهة النقاشات على الساحة المصرية.
يتقصّى القصة الأشهر في حقبة ثمانينيات القرن الماضي، إذ مثلت في جوهرها سلسلة من التحولات الاجتماعية والاقتصادية في مرحلة فارقة من التاريخ المصري الحديث، جاءت في أعقاب مواجهات عسكرية ومع بداية نظام سياسي جديد لم تكن أقدامه قد تثبتت بعد.
البيئة الحاضنة
بدأت قصة توظيف الأموال تلك منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، ويعزو الكاتب المصري الراحل فرج فودة في كتابه «الملعوب» ظهور هذا النمط الاقتصادي إلى مناخ عام ساعد على نموها وتطورها، وتميز هذا المناخ بوجود عدد ضخم من المصريين في الخارج، بخاصة في دول الخليج، ومن ثم تراكم المدخرات في أيديهم، وظهور حاجة ملحة لاستثمارها.
وأرجع فودة أيضًا ظهور شركات توظيف الأموال إلى أسباب أخرى منها ظهور حاجة المصريين في الخارج إلى الاستثمار في مشروعات في بلادهم بمدخراتهم، وتزامن ذلك مع عدم وجود فرص استثمارية جيدة برؤس أموال صغيرة، إلى جانب الروتين الحكومي الذي أعاق الاستثمارات من جانب آخر.
تضافرت هذه الأسباب مع إنخفاض نسبة الفوائد في البنوك المصري آنذك، التي كانت تصل إلى نصف نسبة معدل التضخم السنوي، ما يعني أن المودع يخسر أمواله جراء إيداعه أمواله في البنوك، وعزز هذا الحال بالطبع من فرص الدعوات الدينية التي كانت تقول بتحريم أموال فوائد البنوك.
رؤوس الأموال الصغيرة
الصحفي والمدون المصري معتز حجاج يوضح من جانبه الأوضاع الاقتصادية التي سرعت بظهور شركات توظيف الأموال، أهمها إغلاق منافذ الاستثمار فيما عدا المشروعات الصغيرة والاستثمار العقاري، التي كانت تتناسب مع حجم رؤوس الأموال الصغيرة.
ويشير حجاج في تصريحاته إلى أن شركات توظيف الأموال استغلت هذه الأوضاع وبدأت تتلقف رؤوس الأموال الصغيرة، وتبدأ في استثمارتها، حيث تركّز الجزء الأكبر منها في الاتجار بالعملة، في وقت كانت مصر خارجة لتوّها من حرب وإعادة إعمار، وبالتالي كانت محملة بمديونيات ضخمة.
ويتابع: «ما ساعد هذه الشركات على نمو استثمارهم في العملة، هو سيطرتهم شبه التامة على حوالات المصريين في الخارج، التي تمثل الضلع الثالث لمصادر مصر من العملة الصعبة، إلى جانب عوائد قناة السويس وقطاع السياحة». وهو ما يعتبره وضع مشوه وضاغط سياسيًا على الدولة.
«ومن الآثار السلبية لهذه الشركات أنها أحدثت كم ضخم من الأزمات في سوق السلع، نبع ذلك من قدرتها على احتكار أي سلعة في أي وقت، وإلى جانب السيطرة على سوق العملة، وهو ما دفع الدولة إلى التحرك في النهاية إلى محاصرة هذه الشركات، ومحاولات تصفيتها، وإن جاء هذا التحرك متأخرًا جدًا، وعلى حساب المودعين».
ويصف حجاج عملية تصفية هذه الشركات بأنها كانت عنيفة للغاية، وكان يمكن تجنب أضرارها بتقنين أوضاع هذه الشركات، وتحويل الأموال الضخمة التي تمتلكها إلى استثمارات حقيقية على الأرض، خاصة أن بعض التقديرات أشارت إلى أن حجم هذه الأموال وصل إلى 14 مليار دولار.
وفي ختام حديثه يُرجع الصحفي والمدون المصري أسباب هذه الحالة من السيولة إلى عدم وجود طبقة من رواد الأعمال في مصر خلال هذه الفترة لديها خبرات اقتصادية متراكمة، خاصة مع بداية تحول الدفة نحو الرأسمالية والانفتاح الاقتصادي.
وظهر بجلاء الاقتصادي الطفيلي، إذ كان النجاح الأكبر لرجال الأعمال حينها هو التعاقد مع توكيل أجنبي في مصر، ومن ثم انعكست هذه الحالة على السوق ككل، وشجع على بزوغ عصر شركات توظيف الأموال.
تحرك الحكومة
مع تنامي نفوذ شركات توظيف الأموال، بدأت الدولة استهدافها، فأصدرت القانون رقم 146 لسنة 1988، في شأن تنظيم عمل شركات تلقى الأموال، وقد وضع القانون ضوابط لإنشاء شركات تلقى الأموال، وألزم القانون الشركات القائمة وقت صدوره بتقديم قوائم مالية معتمدة من مراقب الحسابات، وإشراف الهيئة العامة لسوق المال على أعمالها، خلال ثلاثة أشهر من صدوره.
لم تستطع الشركات استيفاء الالتزامات التي حددها القانون الجديد، إذ كانت تُدار بأسلوب فردي غير مؤسسي، وغير رسمي في أحيان كثيرة، وبالتالي لم تتمكن من تقديم الميزانيات، لعدم وجود أصول وأنشطة حقيقية في أغلب الأحيان.
على إثر ذلك قامت الهيئة العامة لسوق المال بإحالة تلك الشركات للنيابة العامة والمُدعي العام الإشتراكي، ومع نهاية عام 1989 فُتح ملف أحمد الريان وبدأت الحكومة محاصرة جميع أصحاب هذه الشركات تباعًا وعلى رأسهم أشرف السعد وعبد اللطيف الشريف صاحب مجموعة الشريف للأعمال.
وفي آواخر عام 2006 استردت نحو 47 ألف أسرة جزء من مستحقاتها، بعد أن قررت الحكومة رد بعض مستحقات جميع المودعين وإغلاق الملف بالكامل وصرفت 368 مليون جنيه مصري، وأعلن رئيس الوزراء حينها أن توفير المبالغ تم من خلال أرباح البنك المركزى التى تخلت عنها الحكومة لصالح الأسر التي فقدت ودائعها في شركات توظيف الأموال، إلى جانب بيع أصول شركات توظيف الأموال.
نظرية اقتصادية
الخبير الاقتصادي المصري أحمد معطي، يرى من جانبه أن فلسفة هذا النوع من الشركات يعتمد على إعطاء المستثمر أرباح أكثر من نسبة فوائد البنوك بالأساس، مشيرًا إلى هذا النوع من الاستثمارات لا يزال متواجدًا في شكل عصري مثل شركات التسويق الشبكي والعملات الرقمية.
ويضيف معطي أن فكرة توظيف الأموال تعتمد بالأساس على نظرية اقتصادية يطلق عليها «بونزي»، التي تعني أن يقوم شخص ما بالترويج لشركة استثمارية على أساس أنها تستثمر في قطاعات مثل العملات أو النفط والغاز، وأن مجرد الاستثمار فيها يعطي المستثمرين أرباح طائلة.
ويستطرد: «بالفعل يحصل المستثمر على أرباح حقيقية لفترة من الوقت، لكن هذه الشركات تعتمد على دفع الأرباح من أموال مستثمرين آخرين دفعوا أموالهم مؤخرًا، نتيجة الثقة التي اكتسبوها من دفع أرباح آخرين سبقوهم في استثمار أموالهم، لكن فجأة تنفجر الفقاعة، وتتوقف الشركة عن دفع الأرباح».
وينادي الخبير الاقتصادي بضرورة رفع الوعي الثقافي الاقتصادي للمواطن، عن طريق تدريس مناهج اقتصادية في مناهج التعليم، موجهًا نصيحة للجميع بضرورة الاستثمار عبر القنوات الرسمية، التي تكفلها بشكل مباشر البنوك، والابتعاد عن شركات التسويق الشبكي والاستثمار في العملات الرقمية.