في أوائل القرن الماضي كانت العاصمة المصرية على موعد مع استقبال آلة طباعة عجيبة، شُحنت على متن سفينة من فرنسا، وبعد رحلة طويلة وشاقة في عرض البحر المتوسط، استقرت الآلة الجديدة في «المعهد الفرنسي للآثار الشرقية» بحي المنيرة وسط القاهرة، لتبدأ رحلتها في طباعة آلاف المخطوطات بحروف هيروغليفية.
وبعد توقف دام نحو 30 عاما، عادت آلة طباعة الأحرف الهيروغليفية مؤخرا للعمل، لتعيد للذاكرة ألق الماضي، ودورها في خدمة علم المصريات.
ويروي مدير قسم النشر في المعهد الفرنسي للآثار الشرقية، ماتيو غوس، قصة آلة الطباعة تلك، فيقول: «تعود قصتها إلى عام 1902 عندما قمنا بشرائها من شركة Foucher في فرنسا، ووصلت إلى مصر بعد رحلة استكشافية طويلة في البحر المتوسط».
وعن طريقة عمل الآلة، يشرح غوس لموقع «سكاي نيوز عربية»: إنها آلة ثمينة للغاية، إذ تقوم بصب الأحرف، فهي تصنع أحرف الرصاص التي يتم وضعها على ألواح للطباعة»، لافتا إلى أن هذا النظام كان معمولا به في مجال الطباعة قبل ظهور التقنيات الجديدة مثل المطابع الرقمية و»الأوفست».
وابتكر المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية، خطًا هيروغليفيا في البداية وصل إلى 3500 حرف في عام 1907، ثم بدأ العدد في التوسع إلى أن وصل إلى 7 آلاف علامة هيروغليفية في عام 1983.
وبحسب غوس، سمح هذا الابتكار بنشر كتابات النحت الجداري في معابد العصر البطلمي بجنوب الوادي، مثل إسنا وإدفو ودندرة، فلم يكن من الممكن نشر الآلاف من الكتابات الهيروغليفية دون هذه الآلة، على حد قوله.
ويصف الرجل دورة عمل آلة الطباعة، حيث تستغرق ساعة ونصف على الأقل، بدءا من تحضير مصفوفة نحاسية تمثل الهيروغليفية، ثم تقوم الماكينة، التي تعمل بالضغط والغاز، بصهر الرصاص عند 350 درجة وإعادة إنتاج النموذج بأي عدد نريده من الأحرف، التي يصل عددها إلى 7 آلاف، ثم يتم وضع هذه الأحرف على لوحات لتتم طباعتها.
الإصلاح والتشغيل
وبعد ظهور تقنيات الطباعة الحديثة، أصبحت هذه العملية الميكانيكية المعقدة شيئا من الماضي، لكن غوس قرر استعادة هذا الماضي وإصلاح آلة الطباعة، إذ يرى أن أفضل طريقة لحماية التراث هي الحفاظ عليه والتعريف به بشكل صحيح، واستخدام هذه الآلة التي يعتبرها كنزًا.
وبعدما تمكن الميكانيكي المصري هاني معوض، من إصلاح الأجزاء التالفة وإعادة تشغيل هذه الآلة التاريخية في سبتمبر الماضي، ظهرت عقبة جديدة، إذ لم يكن هناك من يستطيع العمل على هذه الآلة بعد توقفها كل هذه المدة.
لكن غوس استطاع تجاوز الأمر، بعد أن طلب من حسام سعد الموظف السابق بالمطبعة -المتقاعد حاليا- أن يأتي ويدرب العمال الشباب، وبالفعل تدرب على يديه هاني حسام وأحمد فتحي اللذين أصبحا قادرين على استخدام الآلة باحترافية.
ويوضح مدير قسم النشر بالمعهد الفرنسي للآثار الشرقية: «نحن في وقت يتعين فيه على الأجيال الأكبر سنا نقل المعرفة إلى الشباب، لذا نسعى لتنظيم ورش عمل مع الطلاب والمهنيين لتعليمهم نظام الطباعة، وسنكون قادرين أيضا على طباعة نماذج صغيرة باستخدام آلات طباعة الحروف، التي تختلف كثيرا عن الطباعة الرقمية أو الأوفست».
بُعد فني
«قابلت فنانين ومصممي غرافيك وحتى ناشرين مهتمين بهذا المشروع، هناك حنين لهذه التقنيات القديمة».. يصف غوس الشغف المصاحب لإعادة تشغيل آلة الطباعة، موضحا: «يبحث بعض المحترفين عن هذا النوع الخاص جدا من الطباعة، لذا فإن هناك غرض آخر إلى جانب تعليم عمل الطباعة في الماضي، فلدينا بُعد فني كبير يمكن تحقيقه».
ويختتم الرجل حديثه بالتأكيد على أهمية المشروع، قائلا: «يتعلق الأمر بصلتنا والتزامنا بالتراث والماضي والتاريخ، يجب أن نضمن نقل التقنيات القديمة حتى لا تختفي المعرفة، إذ يوجد عدد قليل جدا من دور الطباعة في العالم بإمكانها استخدام مثل هذه الآلات».
وتابع: «أعتقد أيضا أن هناك طريقة لاستخدام التقنيات القديمة في أعمال التصميم الغرافيتي الحديثة، ستكون النتيجة مثيرة للاهتمام على أي حال».
يشار إلى أن المعهد الفرنسي للآثار الشرقية أُُسس في عام 1880، وهو ضمن شبكة المعاهد الفرنسية في الخارج التابعة لوزارة التعليم العالي. ويتيح المعهد للباحثين دراسة الحضارات التي تعاقبت في مصر، منذ فترة ما قبل التاريخ حتى التاريخ المعاصر، من زاوية الآثار والتاريخ والدراسات اللغوية.
وبحسب الموقع الرسمي للمعهد، يتوزع باحثوه من الفرنسيين والمصريين والأجانب بصفة تقليدية في قسمين: الأول مخصص لـ»دراسات المصريات وعلم البرديات» والثاني مخصص للـ»دراسات القبطية والعربية والإسلامية».