العلاقة السببية بين ارتفاع عدد الولادات وتراجع معدلات قياس التنفس لدى المرأة التونسية، مثّلت محور سلسلة من الأبحاث العلمية التي أجراها أستاذ علم وظائف الأعضاء والاستكشافات الوظيفية بكلية الطب بسوسة البروفيسور حلمي بن سعد انطلقت منذ عام 2001، وكان آخرها بحث نشرت نتائجه في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في دورية “بي إم سي بالموناري ميديسن” (BMC Pulmonary Medicine).
وحلمي بن سعد هو خبير دولي في قياس التنفس، ويتصدر ترتيب خبراء قياس التنفس في أفريقيا، كما يترأس الهيئة التونسية لعلم وظائف الأعضاء والاستكشافات الوظيفية، انطلق من مجموعة من الفرضيات التي تشرح التأثير السلبي لعدد الولادات على الوظائف التنفسية لدى المرأة، والتي انتهت إلى نتيجة مفادها أنه كلما زاد عدد حالات الحمل، تدهورت وظيفة الجهاز التنفسي.
يقول البروفيسور حلمي بن سعد إن اكتشاف العلاقة بين عدد حالات الحمل والوظيفة التنفسية كان مصادفة، ففي عام 2001 وفي سياق اشتغاله على أطروحته الطبية، وأثناء تحليل العوامل التي تؤثر على بيانات الجهاز التنفسي لكبار السن من سكان تونس، تم اكتشاف علاقة قوية بين عدد حالات الحمل وقياسات التنفس. ومنذ ذلك الحين، تم إجراء دراسات محددة أكدت كلها الفرضية التي تقرن بين زيادة حالات الحمل وبين تدهور وظيفة الجهاز التنفسي.
حلمي بن سعد خبير دولي في قياس التنفس ويتصدر ترتيب خبراء هذا المجال في أفريقيا ()
المعادلة بين الخصوبة وطول العمر الصحي
يرى البروفيسور حلمي بن سعد أن هناك ارتباطا ظاهريا سلبيا كبيرا بين عدد الأطفال المولودين وعمر النساء الصحي، حيث يقلل كل طفل إضافي 0.74 سنة من العمر الصحي، فقد أثبتت الأبحاث أن النساء اللاتي تجاوزن سن 45 عاما وعدد أطفالهن يساوي أو يفوق 3 أطفال يكون لديهن ميل نحو انسداد الشعب الهوائية وانخفاض قوة العضلات الشهيقية (انخفاض الضغط الشهيقي الأقصى)، الأمر الذي يستدعي اعتماد عدد حالات الحمل كمتغير مستقل في النماذج الحسابية التي تتنبأ بالقيم الطبيعية لمتغيرات قياس التنفس.
ويشير البروفيسور بن سعد إلى أن هذه النتائج تنسحب على النساء التونسيات وعلى النساء في الدول التي تتميز بنسبة مرتفعة من الولادات عموما.
تعدد الولادات وتغيرات على أكثر من مستوى
يعتبر البروفيسور حلمي بن سعد أنه يمكن تقديم عدة فرضيات لشرح التأثير السلبي لعدد الولادات على معايير قياس التنفس لدى النساء. وتقوم هذه الفرضيات على مجموعة من التغيرات التي يلاحظها المختصون في متابعة صحة المرأة من ذلك:
تغيرات في قوة عضلات الجهاز التنفسي: إذ تكشف الأبحاث حول فحص المعدلات القصوى للشهيق والزفير للإناث الأصحاء أن النساء اللواتي لديهن عدد ولادات يساوي أو يفوق الأربع لديهن معدلات ضغط شهيق أدنى من النساء اللاتي يبلغن من العمر 60 عاما مع عدد ولادات أقل من 3.
وفحص المعدلات القصوى للشهيق والزفير هو فحص يسمح بتقييم قوة عضلات الجهاز التنفسي التي تسهم في آلية التنفس وتنظيف الشعب الهوائية.
دراسة عدد حالات الحمل في علاقتها بجهاز التنفس تفتح آفاقا علمية جديدة ()
تغيرات تشريحية: ترتبط حالات الحمل وفق بن سعد بالتغيرات في الغشاء المخاطي للمجرى الهوائي، إذ تؤدي زيادة حجم الرحم ومنطقة البطن إلى تغيير في تكوين الصدر وعضلات الجهاز التنفسي.
فقد يزداد محيط الصدر ويحدث تضخم في عضلات الجهاز التنفسي، بالإضافة إلى تغيير في الميكانيكا الحيوية لعضلات البطن. ويمكن أن تتراكم تأثيرات هذه التغيرات مع الحمل المتكرر وتؤدي إلى انخفاض قوة عضلات الجهاز التنفسي، وبالتالي “تدهور” معايير قياس التنفس.
تغيرات هرمونية: فالهرمونات الجنسية الأنثوية هي وسيطة مفترضة لصحة الرئة، فهي تتحكم في العضلات الملساء في مجرى الهواء، وتكاثر الخلايا، والالتهاب.
ويشير بن سعد إلى أنه يبدو أن الأستروجين والبروجسترون خاصة لهما تأثيرات متقلبة على معايير قياس التنفس عبر العمر الافتراضي، إذ يرتبط عدد حالات الحمل بزيادة هرمون الأستروجين المنتشر.
ونظرا لوجود تأثيرات التهابية معترف بها في بعض الأمراض الغالبة على الإناث، فإن هرمون الأستروجين المنتشر بإمكانه أن يتسبب في أمراض الرئة الالتهابية بما في ذلك مرض الانسداد الرئوي المزمن.
كما يمكن للتغيرات الهرمونية أن تعدل بارامترات قياس التنفس خلال عملية الشيخوخة، فعلى سبيل المثال، يحدد إفراز الكورتيزون عند الإناث المسنات درجة شيخوخة الرئة، لأن المستويات المرتفعة من الكورتيزون مرتبطة بانخفاض في قوة العضلات، فمن الممكن أن يكون الكورتيزون عاملا وسيطا في العلاقة بين تعدد الولادات وقوة عضلات الجهاز التنفسي.
النتائج معبرة عن التونسيات وعن نساء الدول التي تتميز بنسبة مرتفعة من الولادات (شترستوك)
تغيرات جينية: يقول البروفيسور حلمي بن سعد: إن بعض العلماء طوروا فرضية جديدة لشرح كيف يمكن لارتفاع حالات الحمل أن تؤدي إلى معدلات قياس تنفس أقل من المتوسط لدى النساء ترتبط بمثبط الإنزيم البروتيني “إم زد” (MZ).
وتستند هذه الفرضية إلى إمكانية زيادة معدل دوران الإيلاستين في مثبطات الإنزيم البروتيني “إم زد” ناتجة عن مستويات مثبطات الأنزيم البروتيني المنخفضة المزمنة.
تغيرات المناعة الذاتية: يشرح البروفيسور حلمي بن سعد أن ارتفاع عدد حالات الحمل قد يؤثر في التنظيم المناعي لدى النساء خصوصا المدخنات. فأثناء الحمل، تفرز المشيمة البروتين المعدني، أي بروتين البلازما “إيه” (A) المرتبط بالحمل، والذي تبين أنه يزيد في حالات الإصابة بمرض الانسداد الرئوي المزمن.
كما أن الإناث عرضة للإصابة بالعديد من اضطرابات المناعة الذاتية، ويبدو أن هرمون الأستروجين ينظم أنشطة بعض الخلايا، مثل إنتاج الأجسام المضادة للخلايا البائية والالتهابات التي تتوسطها الخلايا التائية.
ونظرا لأن عدد حالات الحمل مرتبط بالمناعة الذاتية، فقد يكون تعدد الولادات مهيئًا لتطوير المناعة الذاتية. ووفقا لبعض العلماء، من الممكن وجود علاقة غير محددة بين عدد حالات الحمل، والمناعة الذاتية، وقابلية الإصابة بمرض الانسداد الرئوي المزمن.
تؤدي زيادة حجم الرحم ومنطقة البطن إلى تغير تكوين الصدر وعضلات الجهاز التنفسي (شترستوك)
فرط تفاعل الشعب الهوائية
يضيف البروفيسور حلمي بن سعد إلى مجمل هذه الفرضيات والأسباب التي تؤدي إلى تدهور جهاز التنفس لدى المرأة مع تعدد حالات الحمل، عاملا آخر وهو فرط تفاعل الشعب الهوائية، إذ يشرح أنه مع الحمل هناك ارتفاع في العناصر المضيقة للشعب الهوائية على حساب انخفاض العناصر الموسعة للقصبات.
وقد يكون هذا الارتفاع في فرط تفاعل الشعب الهوائية أثناء الحمل ناتجا أيضا عن انخفاض حجم الرئة وما يصاحب ذلك من انخفاض في تجويف مجرى الهواء. ويمكن أن تتراكم هذه الآثار مع حالات الحمل المتكررة، فتوضح جزئيا الميل إلى تضخم الرئة المفرط وعيوب الانسداد التنفسي.
آفاق علمية جديدة
يشير البروفيسور حلمي بن سعد إلى أن دراسة التأثيرات المحتملة لعدد حالات الحمل على بارامترات قياس التنفس ينبغي أن تصبح مؤشرا رئيسيا يجب تسليط الضوء عليه وتقييمه.
لذلك، قد يكون هذا المبحث اتجاها جديدا واعدا للبحوث الفيزيولوجية المرضية، خاصة في البلدان منخفضة الدخل والبلدان ذات الدخل المتوسط الأدنى. وبالتالي، فإن الدراسات الوبائية والسريرية المستقبلية لمعايير قياس التنفس لدى الإناث ستحتاج إلى تضمين معلومات حول عدد حالات الحمل.