الرئيسيةكندا اليوم لا مستحيل في بستان الإمام غيّه ويزهر في كيبيك التين واللوز...

[تقرير] لا مستحيل في بستان الإمام غيّه ويزهر في كيبيك التين واللوز والمشمش والزيتون



سخر الإمام حسن غيّه كل مكتسباته ومعرفته في سبيل جعل المستحيل ممكنا وغرس ثمار بلده الأم لبنان ذي المناخ المتوسطي في أرض كيبيك ذات المناخ الشديد البرودة طيلة غالبية شهور السنة.بستان تعبق فيه الذكرى ويسكن في زواياه الشوقاصطحبكم اليوم في نزهة إلى بستان لا يشبه أي بستان آخر، فلا التحديات المناخية تسمح بوجوده ولا الوقت والالتزامات الاجتماعية والمهنية لصاحبه كان يمكن أن تجعل تطويره ممكنا. يملك هذا البستان كل المعطيات التي تجعل منه مورد رزق وبحبوحة لصاحبه، ولكن هذا الأخير يرفض المساومة على غاية فضلى استدعت تأسيسه على مراحل وخطوة بخطوة منذ العام 2009.
كل المؤشرات ذلك اليوم كانت توحي لي بأنني انتقلت إلى مكان بعيد تماما لا يمكن وجوده في مقاطعة كيبيك. يشبه هذا المكان كثيرا تلك الأمكنة المحفورة في الذاكرة من عهد الطفولة. تتنشق الأشجار والأزهار والنباتات عبق الصيف ودفئه، وسط مناخ يذكر بالمناخ الشبه استوائي في بلدان الشرق الأوسط.
آثرت ناتالي غرو الكيبيكية أن تستقبلني على الطريقة اللبنانية بالترحيب والتأهيل بالضيف.الصورة: Radio-Canada / Colette Darghamقبل أن تصل ببضعة أمتار إلى منزل الإمام حسن غيّه، يبدأ المشهد بالتغير، تخرج فجأة من منطقة حضرية إلى منطقة نائية شبه معزولة. لم يطل وقت تفكيري عما إذا كنت قد وصلت فعلا، عندما شاهدت سيدة تقترب مني حاملة طبقا عليه تمور وشرائح بطيخ منعشة ومرطبة في ذلك اليوم الحار. ناتالي غرو (Nathalie Groulx) زوجة الإمام غيّه لا تتبع تقاليد الضيافة اللبنانية فحسب، بل هي أيضا تتحدث وتفهم اللغة العربية. البستان هو حلم مشترك لناتالي والإمام غيّه، تُمسك هي بزمام الميزانية وتستأثر بزراعة كل ما ليس للمأكل وإنما للمنظر من زهور وورود وأشجار يتفيأ أهل البيت وزواره تحت ظلالها.
تستقبل ناتالي بكل رحابة صدر زوار زوجها من أبناء الجالية اللبنانية والعربية، وقد خصص ربا المنزل ساحة كبيرة حول منزلهما تركن فيها أكثر من 800 سيارة. هذا الفناء الشاسع يحتضن أيضا خيمة بلاستيكية كبرى مخصصة لاستقبال الضيوف. وقد أمكن إبان جائحة كوفيد-19 استقبال المؤمنين للصلاة يوم الجمعة داخل هذه الخيمة في الهواء الطلق. يقول الإمام غيّة بأن هذه العادة مستمرة إلى اليوم حتى بعد انتهاء الجائحة.
حينما تصل تطالعك حقول شاسعة شبّت فيها شتلات الذرة، الإنتاج الزراعي الأشهر في كيبيك. إن الأرض للإمام غيّه ولكنه يضّمنها للمزارعين في المنطقة لأن عينه على زراعات أخرى تتسم بالتحدي والمغامرة.
حتى الياسمين حمله معه من لبنان ليحكي له بياضه في كل صباح حكاية عن بلده يُسّر بها قلبه.الصورة: Radio-Canada / Colette Darghamكأنه لم يغادر قط بلدته تكريت في قضاء عكار في شمال لبنان
هذا البستان يشكل لي الجسر واللحمة مع الماضي البعيد في بلدي الأم. اليوم عندما ارى كل ما حققته يداي يجتاحني شعور بالسعادة. لا يمكنك أن تحقق أهدافك من دون جهد وتعب وسهر وطول أناة. ما وصلت إليه اليوم كان نتيجة عمل دؤوب ومثابرة وإصرار على المضي قدما، لا شيء يأتي مجانا في هذه الحياة.نقلا عن الإمام حسن غيّه، صاحب بستان للمزروعات الشرق أوسطية في مدينة سان ريمي جنوب غرب مقاطعة كيبيك
وصل الإمام غيّه إلى كندا عام 1974 شابا يافعا طالبا للعلم، درس في كيبيك الحقوق والهندسة والتحق بشركة بومباردييه العريقة. خاض ايضا في السياسية وهو حاليا عضو في اللجنة التنفيذية لطاولة الحوار بين الأديان في مقاطعة كيبيك. كل هذه المسؤوليات لم تحل دون تشكيل الإمام غيّه لعالم يشبه ملاعب طفولته يلجأ إليه كلما عصفت ريح وكلما تلّبدت سماؤه بسحابات سوداء. يشكل له بستانه فضاء يشتم في حناياه عبق الماضي ورائحة أحبة يعيش على ذكراهم وتمتلكه نشوة كبرى عندما تتراءى له وجوههم سعيدة ممتنة.
سيعثر الإمام غيّه على مكان البستان، الذي كان أرضا بورا وأصبح جنة غناء، عن طريق الصدفة ليتيقن بعد وقت قليل بأنه نذر لهذا المكان منذ زمن بعيد وفيه يبني مملكته السعيدة و يعيش كل عمره.
يستخدم الإمام حسن غيّه خبرته الهندسية لتوفير كافة السبل العملية والمريحة لنقل شجرة الرمان التي نشاهدها في الصورة وغيرها من الأشجار التي تعيش في المناخ المتوسطي إلى داخل البيت الزراعي الدافئ عندما ينتهي فصل الصيف وتبدأ البرودة في الطقس. الصورة: Radio-Canada / Colette Darghamفاجعة في عائلة الإمام غيّه ستعجل في بناء مداميك المملكة الزراعيةعشية فاجعة الموت المفاجئ لنجله جمال ابن الخمسة عشر ربيعا، كان الإمام غيّه قد اشترى شجرتي ثمار وغرسهما يدا بيد معه. أدرك حينها أن ابنه مولع بالأرض والزراعة، ولن تأتي إليه فكرة الشروع في تطوير بستانه إلا غداة وفاة فلذة كبده، ويبدأ الخطوة الأولى في مسيرة الألف لا بل الألفي ميل.

إنني سعيد في شكل خاص لأن فكرة البستان في الأساس كانت عن روح ابني جمال الذي توفي عندما كان عمره 15 عاما. لم نستطع أنا ووالدته أن نقدم له الكثير قبل وفاته، فأحببنا أن نقدم لأولادنا الآخرين. إن خدمة الناس وأبناء الجالية العربية تشكل غاية وجود هذا البستان الفضلى. البستان مفتوح بالمجان للقاصي والداني، يقطف الزائر ما شاء مما لذ وطاب من الثمار والمحاصيل والمواسم. يتردد إلى بستاننا أيضا رفاق ابني جمال من الشباب المنضوين في منظمة ’’بيت الشباب‘‘ (La Maison des Jeunes) القريبة التي كان يرتادها ابني ويعمل فيها متطوعا […] أسأل الله سبحانه تعالى أن يكون هذا البستان صدقة جارية عن روح نجلي.نقلا عن الإمام حسن غيّه، صاحب بستان للمزروعات الشرق أوسطية في مدينة سان ريمي جنوب غرب مقاطعة كيبيك
’’الهوس بالتفاصيل في طبيعة المحامي والمهندس‘‘لا يستطيع المتحدث أن يحدد حجم الوقت الذي يستغرقه الاهتمام بالبستان. يقول: ’’لا تقدر المسألة بالوقت بل بالاهتمام وبمحبة ما نقوم به. يأتي اكتساب الخبرة على مرّ الايام وخوض التجارب من كل شكل ولون. مثل اكتشاف بعد طول عناء أن من يأكل ثمار المشمش هو السنجاب ومن يقضي على موسم العنب والتوت بالكامل هي العصافير. ولكن لكل داء دواء، السنجاب وضعنا له أقفاص ونرميه حيا في الغابة البعيدة بعد التقاطه والعصافير منعنا عنها الوصول إلى الثمار بشباك تحيط بكل العرائش وأشجار التوت في شكل خاص‘‘.

في طبيعة المحامي وكذلك المهندس أنهما يهتمان كثيرا بالتفاصيل، وأنا مهووس بالتفاصيل. المفروض أن نتقن عملنا ونتمه على أكمل وجه. هناك حديث شريف يقول: ’’من عمل عملا فليحسنه، إن الإحسان بالإتمام‘‘.نقلا عن حسن غيّه، إمام وعضو في اللجنة التنفيذية لطاولة الحوار بين الأديان في مقاطعة كيبيك
يؤكد المتحدث بأن الإنسان لا يملك الخبرة في كل أمور الحياة وهو لم يدع في حياته قط المعرفة، بل يمضي عمره في البحث والسؤال وطلب العلم والمشورة من أهل الاختصاص في كل شاردة وواردة. هو يؤمن بأن المعرفة غير ثابتة وتتطور، والدليل كل التطور الذي شهده بستانه الذي تزرع فيه أشجار لم يخطر في بال أحد يوما أنه يمكن زراعتها في كندا.
كانت طفولة الإمام غيّه في الريف وعاش في أحضان الطبيعة وأحب الأرض والزراعة التي كان يمارسها والده. ولكن هو طور اليوم تلك المعرفة البدائية وصقلها بالعلم وبكل ما توصلت إليه التقنيات الزراعية الحديثة.
صنع الإمام غيّة بيتا من البلاستيك السميك الذي يوفر العزل ويحمي من الطقس الشديد البرودة. اشترى المواد العازلة من الولايات المتحدة الأميركية وأما القواعد الحديدية المنصوبة في الارض فاشتراها من مونتريال. هي ذاتها التي يتم استخدامها لتعمير الخيم أمام البيوت التي تقي السيارة المركونة داخلها من الثلوج في الشتاء. زرع صاحب البستان داخل هذا البيت الزراعي المجهز بتقنيات خاصة كل الأشجار التي تحتاج إلى درجات حرارة عالية مثل التين واللوز والمشمش والدراق والكاكي (الخرمة).
تشرّع أبواب البيت الزراعي في الصيف في تصميم هندسي متقن يسمح بغلق الأبواب عندما تعصف الريح ويقدم الشتاء.الصورة: Radio-Canada / Colette Darghamيشرح الإمام حسن غيّه عن خصائص شجرة التين يقول: ’’تتحمل شجرة التين درجات حرارة منخفضة إجمالا ولكن ليس لفترات طويلة مع درجات تتدنى إلى 20 و 30 تحت الصفر. لذلك وفرت لهذه الشجرة المناخ المعتدل على مدار العام داخل بيت البلاستيك. وضعت في داخله براميل مملوءة بالمياه تعمل بنظام الطاقة الشمسية. تُسخن حرارة الطقس في الصيف المياه داخل البراميل. وعندما تتدنى درجات الحرارة إلى تحت الصفر في الشتاء، تساهم الحرارة المخزنة في البراميل في تدفئة المكان‘‘. في بستانه أيضا خوخ، إجاص، تفاح، فريز، فرمبواز، توت، كيوي، عنب وغيرها من الثمار بأصناف وأنواع مختلفة.
في الباحة الخارجية لمنزل ناتالي والإمام غيه تجد ايضا الياسمين وعطر الليل وزهر الليمون والغاردينيا من زهور الشرق وعطوره الفواحة.
ضاق المضيف ذرعا بي عندما كنت أكرر سؤالا واحدا على مسامعه كل ثانية: ’’هل يوجد في بستانك شجر زيتون؟ هل يوجد شجر لوز؟ وماذا عن الكرز؟ ليرد علي الإمام غيّه في النهاية قائلا: ’’ألا تظنين بأن عليك حذف كلمة هل من جملتك؟‘‘ بالفعل يوجد في هذا البستان ما لا يخطر على بال إنسان وتجب المشاهدة بأم العين لأن من يسمع بهذه الوفرة والتنوع الزراعي لا يصدق أنها ممكنة في كندا.
يعتبر المتحدث أن ’’كندا من أكبر البلدان الزراعية في العالم، العلّة الوحيدة تكمن في طول فصل الشتاء البارد‘‘.
في الري يستخدم الإمام غيّه نظاما أوتوماتيكيا صنعه ونفذه بنفسه أيضا يوفر عليه الكثير من العناء وترتوي كل مزروعات البستان بما يكفيها من المياه عبر الأنابيب الممدودة تحت الأرض وفوق التربة على حد سواء.
’’ما نيل المطالب بالتمني‘‘يعتمر وجه الإمام غيّه بالبشاشة وكأنه ينتقل إلى عالم آخر وهو يشذب بستانه وينقيه. يقول لي إنه يجد فرحه في كل مرة يتنزه فيها في البستان، لأنه يكون على موعد مع نجله جمال، يشتم رائحته وتحمل إليه النسائم طيفه. ناتالي لم تستطع تمالك نفسها وهي تمشي معنا في البستان وتقطّع صوتها شجنا عندما أتت على ذكر ابنها. لم تكن في البدء توافق زوجها في مغامرته المجنونة لتتيقن اليوم بأن ابنهما يبارك عملهما ويمدهما بالقوة والعزم.
ليس أجمل من أن يجد الإنسان الهدوء والصفاء في الطبيعة الغناء […] في بستان ناتالي غرو والإمام حسن غيّه ركن استراحة وتأمل في كل زاوية من زواياه.الصورة: Radio-Canada / Colette Dargham
ليس من الضروري أن يملك الإنسان بستانا وليس من الضروري إذا كان عنده بستان أن يزرع فيه مئات الأشجار. الأهم من ذلك كله أن يكون عنده هدف يضعه نصب عينيه، ويعمل ما في وسعه لتحقيقه. لا يمكن نيل المطالب بالتمني، بل يجب المثابرة والجهد من أجل تحقيق الأهداف والأحلام والطموحات، ما ترينه اليوم لم يأت بين ليلة وضحاها. غاية السرور في حياة كل إنسان أن يجد أن جهوده لم تذهب سدى ولم يضيع وقته.نقلا عن الإمام حسن غيّه، صاحب بستان للمزروعات الشرق أوسطية في مدينة سان ريمي جنوب غرب مقاطعة كيبيك
(أعدّت التقرير كوليت ضرغام منصف)

Most Popular

Recent Comments