أتى عبد الحميد برزوق إلى مدينة كيبيك لأن أفرادا من عائلته فضلوها على غيرها من المدن الكندية الأخرى، علما أنه عاش أيضا في مدينة تورنتو عاصمة مقاطعة أونتاريو وكان في نيته إطلاق مطبخه الكندي الأول هناك. ولعل الغاية السامية بالحفاظ على وحدة العائلة وعدم تشتتها، كانت له الوسيلة أيضا لإيجاد اليد العاملة، في الوقت الذي يعاني فيه العديد من أصحاب المطاعم عبر البلاد من النقص في العمالة.هل على بالك ساندويش بمذاقات العالم؟ من مطبخ حوض البحر الأبيض المتوسط أو المطبخ الأوروبي أو التركي أو اليوناني أو الجزائري؟ كل هذه المطابخ في خلطة واحدة متقنة وفاخرة في مطعم الشيف الكندي الجزائري عبد الحميد برزوق في وسط مدينة كيبيك القديمة عروس مقاطعة كيبيك وعاصمتها الإدارية.
رواده منحوه 5 نجوم في جودة المأكل والخدمةيمكن أن نطلق على وصفته ’’السهل الممتنع‘‘ لأن مكوناتها بسيطة جدا وكذلك طريقة تحضيرها، ولكن السر يكمن في الخلطة وطريقة التقديم والفكرة بحد ذاتها.
تجمع وصفة الشيف برزوق بين المطبخ الشرق أوسطي والمطبخ الجزائري والمطبخ الفرنسي. يقدم وجبات الشيش طاووق والشاورما والفلافل مع الصلصة الجزائرية وخبز التورتيلا على الطريقة الباريسية المعروف بـ ’’باريس تاكوس‘‘، من هنا اسم المطعم بكل بساطة الذي اختاره الطباخ الشاب. يقول هذا الأخير ’’تجد ساندويش ’’تاكوس‘‘ على ناصية كل شارع في باريس والجزائر، وهذا إن دلّ على شيء فهو يدل على شعبية هذه الأكلة‘‘.
’’أسافر مذ كنت صغيرا، وليس عندي أية مشكلة في الانتماء إلى مجتمعات جديدة، اعتنق هوية المكان الذي أعيش فيه وأصير جزءا منه‘‘، يقول الشيف الكندي الجزائري عبد الحميد برزوق.الصورة: Radio-Canada / Colette Darghamكان الشيف الكندي الجزائري السباق في مدينة كيبيك بإطلاق مطعم ’’باريس تاكوس‘‘، ولعل ثقته التامة بوصفته جعلته يجاسر ويفتح مطعمه إبان جائحة كوفيد-19، في شهر أيار / مايو 2021. في الوقت الذي كانت فيه عدة مطاعم عبر مقاطعة كيبيك تغلق أبوابها بسبب تكبدها لخسائر فادحة جراء التدابير الصحية الوقائية، وكانت السلطات الصحية في المقاطعة توصي تارة بفتح المطاعم وطورا بإغلاقها.
كنت واثقا تماما بأن وصفتي ستلقى الإقبال والشعبية، كنت ضامنا النجاح بنسبة 100%. لقد شاهدتِ بعينك في الأمس واليوم وتيرة العمل والطلبيات على الهاتف التي لا تتوقف […] إننا على هذه الحال منذ يوم الافتتاح علما أنه المطعم الوحيد في المدينة الذي يظل يستقبل الزبائن حتى الساعة الثالثة فجراً، في الوقت الذي تتوقف فيه غالبية المطاعم في المدينة عن تقديم وجبات الأكل الساعة العاشرة ليلا في أقصى حد. أنا في نهاية الأمر تاجر يهمني تأمين الإيرادات والأرباح لذا فإنني أحتسب كل خطوة قبل أن أقدم عليها.نقلا عن عبد الحميد برزوق، شيف في الطهي ورجل أعمال
’’ مطعمي مقصد القاصي والداني‘‘هناك سرُّ في المذاق من دون شك ولكن هناك أيضا كرم الشيف في كمية المحتويات التي يضعها في الساندويش الذي يكفي الفرد لوجبة غذاء أو عشاء. يضاف إلى ذلك سعر الساندويش الذي لا زال مقبولا بالمقارنة مع الارتفاع الذي طرأ بعد الجائحة، على كافة المنتجات الغذائية والوجبات التي تقدمها المطاعم.
في ساندويش ’’باريس تاكوس‘‘ مزيج من الصلصات بالجبنة واللحمة والبطاطا والشطة بتوقيع الشيف الذي ولد في مدينة وهران الجزائرية. يجيب برزوق عندما أسأله لمَ لا يقدم المطبخ الجزائري؟ يقول: ’’إن السبب يعود إلى عدم وجود أعداد كبيرة من أبناء الجالية الجزائرية في مدينة كيبيك، بينما توجد فيها جالية لبنانية وسورية في شكل خاص‘‘. من هنا تركيزه على الوجبات التي تعوّد عليها أبناء الشرق الأوسط، علما أن الغالبية العظمى من زبائن مطعمه هم من أهل كيبيك.
تطالعك هذه العبارة ’’نحن نوظف‘‘ في كل مكان تقصده عبر مدينة كيبيك. على الجدران الخارجية لمقر الاستعلامات في شلال مونمورنسي علقت لافتة كبيرة تفيد بالحاجة إلى موظفين يعملون في هذا المرفق السياحي. الصورة: Radio-Canadaنجاح برزوق ليس وليد صدفة وإنما نتيجة دراسة وخبرة وممارسة. فهو قبل أن يصل إلى مدينة كيبيك في العام 2010 بقصد السياحة، جال العالم وتتلمذ على يد كبار الطهاة في فرنسا وايطاليا واسبانيا وتركيا واليونان. كالنحلة التي تجمع رحيق أحلى الأزهار، سجّل الشاب الطموح في ذهنه كل الأفكار الرائدة والمبتكرة لمطبخ يذيع صيته وسمعته. أسس أكثر من سبعة مطاعم في مدينة كيبيك وباعها من ثم محتفظا بأثنين من المطاعم: ’’باريس تاكوس‘‘ (Paris Tacos) في وسط كيبيك القديمة و’’فيا غريالد‘‘ (Via Grillade) بنكهة شرق أوسطية داخل المركز التجاري ’’بلاس لاسيتيه‘‘ في وسط كيبيك.
الشيف الشاطر هو الذي يفرض المذاق وليس مطبخاً بعينه، أنا أتبنى كل مطابخ العالم، أحتفظ منها بما لذ وطاب وأحاول أن تكون لي بصمتي الخاصة. كنت أول من أطلق التاكوس الفرنسي في مقاطعة كيبيك، وقد تبعني أشخاص آخرون في مونتريال وعلمت أن هناك مطعمين أو ثلاثة يقدمون أيضا التاكوس الباريسي هناك […] يجتاز زبائن مطعمي مسافات طويلة تبعد ساعتين أو حتى ثلاث ساعات من أجل تذوق التاكوس، بعدما سمعوا عن جودته من أصدقاء لهم أو شاهدوا فيديوهات على مواقع التواصل. أحيانا أجد طابورا من الناس واقفين أمام المطعم قبل أن يفتح أبوابه عند الساعة الحادية عشرة والنصف صباحا.نقلا عن عبد الحميد برزوق، عشّي ورجل أعمال
لم يعانِ عبد الحميد برزوق من النقص في اليد العاملة لهذه الأسبابالشاب على الصندوق في المطعم تلك الليلة كان من الواصلين حديثا إلى مدينة كيبيك من تونس، والشاب الذي يعد الوجبات في المطبخ من أصل جزائري، يشرف على عمله ويصوب كمية المحتويات شقيق برّزوق الذي أتى مؤخرا من الجزائر. في اليوم التالي، تضاعف عدد الأشخاص الذين يساعدون في المطبخ، غالبيتهم من أصول عربية. بينهم الشاب ريّان عنتر ابن الستة عشر ربيعا الذي يساعد خاله في مطعمه خلال العطلة المدرسية الصيفية. هذا الشاب الطموح يأمل في دراسة الحقوق في كيبيك علما أنه مولود فيها وينهي السنة المقبلة مرحلة الدراسة الثانوية.
وهكذا فإنك تظن أن جميع الأفراد العاملين في المطعم ينتمون إلى عائلة واحدة، يغارون على مصلحة العمل ويضعون قلبهم قبل أي شيء آخر.
الشاب ريّان عنتر يعمل في مطعم خاله خلال العطلة الصيفية، يلفتك سلوكه المؤدب ولطفه المفرط واحترامه للزبائن. لا حدود لطموح هذا الشاب وهو فخور بما حققه خاله ويريد أن يقتفي أثره بالسمعة الطيبة ومحبة الناس.الصورة: Radio-Canada / Colette Dargham
لا زال لدي الطاقم ذاته من الموظفين منذ التأسيس، من ينضم إلى أسرتي المهنية لا يتركها وتصير عائلته. إنني أعاملهم معاملة جيدة، هم إخوة لي ونعمل معا ولا يعملون عندي. أقدم لهم رواتب جيدة لا بل تفوق متوسط الأجور في المطاعم الأخرى. لذا فهم يشعرون بالانتماء الحقيقي إلى هذا المطعم كأنهم هم أصحابه فعلا.نقلا عن عبد الحميد برزوق، شيف ورجل أعمال
لا شك أن هذا الجو من الألفة والتعاون والأخوة بين الموظفين يساهم في ازدهار المطعم وديمومته. لم يضطر برزوق إلى تقليص ساعات عمل المطعم بسبب الافتقار إلى العمال. ويفتح ’’باريس تاكوس‘‘ أبوابه سبعة أيام في الأسبوع من الساعة الحادية عشرة والنصف قبل الظهر حتى الساعة الثالثة فجرا. علما أنني في أغلب المرافق السياحية التي زرتها في تلك الجولة السياحية في مدينة كيبيك في مطلع الشهر الجاري، وجدت إعلانات ولافتات على أبواب الشركات والمطاعم تطلب موظفين. كما كانت غالبية المطاعم في وسط المدينة مقفلة ذلك المساء لذا فرحت فرحا عارما عندما وجدت مطعما فاخرا مصنفا بعلامات عالية في الجودة فاتحا أبوابه حتى ساعة متأخرة من الليل.
الإيجابية معيار النجاحالتقيت داخل المطعم بخضر عاصي الذي يتحدر من أصل لبناني، وهو يتردد بشكل شبه يومي على المطعم لأنه يجد فيه ’’النكهة الأصلية‘‘ التي تعوّد عليها في بلده الأم. يؤكد هذا الزائر بأن مذاق الفلافل والشيش طاووق مطابق تماما للأصل في لبنان. ولعل أكثر ما يلفت خضر عاصي هي معاملة برزوق لزبائنه وكيف يستقبلهم بالابتسامة الدائمة. ’’إنه شخص محبوب جدا. ولعل نجاح رجل الأعمال الكندي الجزائري يعود في جزء كبير منه إلى مستوى انتباهه العالي للإشارات من حوله، وردود فعل رواد مطعمه. يرصد بْرّزوق الإيماءات وتعابير الوجه، وكذلك لغة الجسد. إنه حاضر دوما ليلبي زبونه ويستقبله بكل اللطف والكياسة‘‘.
من جهته، يقول عبد الحميد برزوق ’’إن أهل كيبيك بالإجمال متعودون على الغرباء ومعاملتهم لطيفة جدا معي، لا يشكل لهم اختلافي أية مشكلة ويظهرون لي كل الود والمحبة. إذا كنت مهذبا معهم فهم يبادلونك بالمثل. أنا سعيد بوجودي هنا و أنوي البقاء في هذه الأرض‘‘.
مهنية وحرفية عالية في الطهي وكذلك في الضيافة والاستقبال وراء نجاح الشيف الشاب عبد الحميد برزوق وازدهار أعماله. الصورة: Radio-Canada / Colette Dargham
عمري 37 عاما وانتمي إلى الكون بأسره، عشقت السفر منذ نعومة أظفاري. وإنما في قلبي مكان لبلدي الأم الجزائر، فيه كل الجمال: بمناخه وبحره وحب العيش فيه ومرح الحياة وفرحها. الجزائر تعني لي الفخر والشهامة وأنا أعتز بأصولي الجزائرية. ولكن يعيش الإنسان في المكان الذي اختاره له الله، وأنا كتب لي أن أعيش في كيبيك […] بجانبي الكثير من أفراد عائلتي ومن الأصدقاء، بينهم العديد من أبناء وطني الأم، لا أشعر بغربة على الإطلاق، وتشكل لي كيبيك النافذة التي أطل منها على المستقبل.نقلا عن عبد الحميد برزوق، شيف ورجل أعمال
هذا وعلى جدول المتحدث الذي ينتظر مولوده الأول عدة مشاريع على رأسها فتح سلسلة مطاعم ’’باريس تاكوس‘‘ في سائر أنحاء كندا، ويبدأ الخطوة الأولى آجلاً من مدينة مونتريال القريبة.
(أعدت التقرير كوليت ضرغام منصف)