الرئيسيةكندا اليوم على باب ’’بابا حمدي‘‘ تمائم مصرية وخرزة زرقاء لدفع البلاء

[تقرير] على باب ’’بابا حمدي‘‘ تمائم مصرية وخرزة زرقاء لدفع البلاء



وقع في عشق مدينة مونتريال منذ اللحظة الأولى وقرر بحماسة ابن التسعة عشر ربيعا آنذاك أن يعيش فيها كل العمر. مدفوعا بـ ’’كمية الحب في قلوب أهلها وفرط الإحساس الإنساني في تعاملهم واستقبالهم للغرباء‘‘. يقصّ المهاجر المصري حمدي رزق الله مسيرة هجرته الطويلة التي تناهز اليوم الـ 47 عاما. حلو أكثر من مرّ عاشه من ناهز عمره اليوم الـ 66 عاما وحقق أحلاما كثيرة، على رأسها آخر حلم بافتتاح مطعم مصري يؤخر بعبق الشرق وطيوبه قلبا وقالبا.الأيدي هي التي تصنع المذاق وعندما يأخذ والدي بيديه اللحمة مثلا، فهو ينفخ فيها من روحه، ويغلفها ببعض من تفانٍ وبذل وعبق شرقي وماضٍ محملّ بكل الصور الجميلة.نقلا عن آدم رزق الله، الابن البكر للشيف حمدي رزق الله
كنت أشعر ذلك اليوم بكل تلك الطاقة الإيجابية التي يزخر بها هذا المكان المنسي في منطقة نائية هادئة في مدينة شاتوغيه (Châteauguay) الواقعة في جنوب جزيرة مونتريال.
داخل مطعم ’’بابا حمدي‘‘ يسرح الخيال بك بعيدا، فتدخل إلى فضاءات مصر القديمة، موطن أقدم الحضارات على الأرض وأكثرها عراقة. كل عنصر في هذا المكان مصبوغ بهوية الفراعنة أجداد المصريين، تلك الصيغة المميزة والفريدة التي طبعت التاريخ البشري بأسره. حيث حققت الحضارة الفرعونية تقدما ليس له مثيل ولم يمكن رؤيته في أية حضارة أخرى فيما بعد.
كان يعمل حمدي رزق الله نحو مائة ساعة في الأسبوع على مدى أكثر من 40 عاما، وكان من الصعب عليه أن يمكث في منزله من دون عمل عندما قرر منذ نحو سنتين أن يبيع آخر مطعم يملكه ويتقاعد. علما أنها المرة الثانية التي يقرر فيها الاعتزال ومن ثم يعود عن قراره.
الصورة: Radio-Canada / Colette Dargham…يهمني الإنسان، ولو ’’مالوش عنوان‘‘ما أن تصل إلى مطعم ’’بابا حمدي‘‘ حتى تأسرك رهبة المكان وخشوعه. كتابات فلسفية وتمائم معلقة على بابه تستعيد المعتقدات والتعاليم في المجتمع المصري القديم على أيام الفراعنة، هؤلاء كانوا شديدي الإيمان بالحياة بعد الموت ويجاهدون في سبيل تطوير إنسانيتهم ورفعها إلى مستوى الكمال ليستحقوا ميراث الحياة الأبدية. حمدي رزق الله هو خير خلف لخير سلف في الفلسفة الإنسانية التي ينشرها ويؤمن بها: ’’استبدلوا الأسلحة بالقبلات‘‘، ’’يهمني الإنسان، ولو مالوش عنوان‘‘، ’’صانع السعادة‘‘، ’’صوتك حبيبتى هو بابى على الحياة‘‘ كتب حمدي رزق الله على بابه المشرّع على الحياة والحب والفرح والسلام وكل المعاني الإنسانية الشمولية الجامعة والموحدة لأجناس البشر وأعراقهم وأجناسهم. مطعمه الأخير بالمذاق المصري الأصيل هو آخر السبحة، افتتح أبوابه في خضم جائحة كوفيد-19.
تلفتك حالة ’’الانخطاف‘‘ أو السكر والنشوة الكلية التي يعيشها حمدي رزق الله في مطبخه المطل على صالة الجلوس في المطعم. إنه في تركيز تام لدرجة أنه لا يشعر بوجود أحد، ملتصق بعالم آخر يستوحي منه النكهات والمذاق والتوابل. يستحضرها من ذلك المطبخ في الجيزة، مسقط رأسه، حيث كانت رائحة الحِلل والطناجر التي تطهو فيها والدته تفوح في أرجاء المكان ناثرة ألوانا من البخور والطيب والمسك والعنبر.

كنت شديد الملاحظة، احفظ في قلبي كل الوصفات التي تعدها أمي بقلبها وروحها ويديها التي تقطر طعما خالصا ولونا بهياً ونكهة لا مثيل لها[…] ولا مرة كانت كمية المقادير هي ذاتها، أو محسوبة على الـ’’مِلّي‘‘ ومكتوبة بالورقة والقلم. هذا لأن الشيف الناجح يطهو بقلبه وروحه وليس بعقله، أو بعملية حسابية بعينها.نقلا عن حمدي رزق الله، صاحب مطعم ’’بابا حمدي‘‘
على الرغم من هذه التلقائية والعفوية في إعداد الأطباق الشهية الفاخرة، إلا أن المتحدث لم يوفر سبيلا ليتمكن من كل أدواته بالخبرة و التتلمذ على يد كبار الطهاة في كندا ليتقن إعداد كل أنواع المأكولات في مطابخ العالم. استغرقت المسيرة لتحقيق الحلم الأكبر عند حمدي رزق الله، وهو مطبخ مصري 100%، أكثر من 45 عاما. صال وجال في أرجاء مدينة مونتريال ممتلكا عدة مطاعم، من مطعم إيطالي إلى مطعم فرنسي إلى مطعم لتقديم الوجبات السريعة إلى مطعم بيزا وغيره، ليحط به الرحال أخيرا في جنوب مدينة مونتريال ’’بين أناس طيبين وفي بيئة هادئة صافية‘‘، ويقدم أعزّ ما لديه والأقرب إلى هويته وكيانه، ليكون هو ذاته من دون رتوش ويصنع عالما مصغرا عن دنياه الماضية وما كان له في ذلك المكان البعيد الذي لم يبق منه سوى رائحة وذكرى وكمشة حنين.
الكنديون والسكان الأصليون يشكلون أكثر من 85% من زبائن ’’بابا حمدي‘‘في ذلك اليوم أتى إلى المطعم أشخاص في غالبيتهم من أصول كندية صرفة ومن السكان الأصليين ممن يشكلون في الواقع النسبة الأكبر ديمغرافيا في تلك المنطقة. علما ان الزبون الكندي العربي يشكل نسبة تتراوح بين 15% إلى 20% من إجمالي زبائن مطعم ’’بابا حمدي‘‘.

يقول لي أبناء الأمم الأول الذين تتكرر زياراتهم إلى مطعمي أكثر من مرة في الأسبوع الواحد، إن أكلي يذكرهم بنفس جداتهم وامهاتهم في الطبيخ، كما تذكرهم أجواء المكان والديكورات فيه بأجدادهم والطقوس التي يحييونها على موائدهم[…] طبق المشاوي هو أكثر ما يطلبه الكنديون، إنهم بالاجمال لا يحبون طبق الملوخية ولا حتى القلقاس، بيد أنهم يعشقون الفلافل والطعمية المصرية التي أعدها على طريقتي، وهناك من يهوى طبق الكُشري.نقلا عن حمدي رزق الله، صاحب مطعم ’’بابا حمدي‘‘
يؤكد المتحدث بأن ’’الزبون الكندي لا تكون عنده خلفية عن الطبق المصري، لذا تجده شديد الإعجاب بما يتذوق وليس لديه أي اعتراض. بينما يختلف الأمر بالنسبة لزبون المطعم من أصل مصري أو عربي الذي يأتي باحثا عن طعم طبق الأصل عن الطعم الذي يداعب مخيلته من أيام الطفولة. طبعا استحالة أن أقدم لهذا الأخير طلبه ومهما فعلت فإنني لن أصل إلى تحقيق ذلك‘‘.
شعور بالانتماء إلى المكان، كأنه البيتليزا ومنى مندوبتا عقارات، كانتا في عداد زوار المطعم في ذلك النهار وقد اعتادتا الاجتماع على مائدة عمل عند الـ بابا حمدي. ’’نجد الود وحسن الضيافة والاستقبال لدرجة نشعر أننا في بيتنا وبين أهلنا وناسنا‘‘.
ليزا لافي إلى يمين الصورة ومنى سيبوي تترددان بانتظام إلى مطعم ’’بابا حمدي‘‘ حيث الترحاب الحار والمذاق الأصيل على الموعد دائما.الصورة: Radio-Canada / Colette Darghamبالنسبة لهما، تأتي الحفاوة وحسن الضيافة والاستقبال قبل جودة المذاق وطعمه، فكيف إذا تضافر العنصران معا: جودة مأكل وجودة ضيافة؟
تثني ليزا لافي Lisa Lavie على الغنى الذي يحمله معه المهاجر إلى كندا ويشيعه من حوله، ’’إننا محظوظون بوجود هذه الفسيفساء الاثنية وما تقدمه من إثراء لمجتمعاتنا‘‘.
تقول ليزا: ’’إنني نباتية وأجد طلبي عند بابا حمدي من الأطباق النباتية الصحية المتنوعة. عندما آتي إلى هنا لست أنا من يطلب الأكل، كل ما هنالك أنني أطلب من بابا حمدي أن يعد لي على ذوقه، وفي كل مرة أفاجئ بما يقدمه من تنوع وجودة، فآثر أن أعود ثانية في أقرب وقت مصطحبة معي الأصدقاء والصديقات‘‘.
بدورها منى التي تنحدر من أصول إيرانية عراقية تؤكد أنها مسحورة بأجواء هذا المكان وما يحمله لها من ذكريات وحنين وصور تشبه أمكنة ومطارح محفورة في ذاكرتها من الماضي البعيد، حيث عاشت السنوات الثلاث الأولى من عمرها بين العراق وإيران.

إن حمدي رزق الله لم ينعتق بتاتا عن ماضيه أو انسلخ عنه، إنه لم يطوِ صفحة ذلك الماضي ولا جعله خلف ظهره[…] لقد نقل حمدي رزق الله عالمه الذي كان يعيش فيه إلى هنا، بكل أجوائه وقيمه وتعاليمه وتقاليده وأسسه، فتعمّق تواصلنا مع ذلك العالم وشعوبه وانبثقت تلك اللحمة التي توحد الأواصر والعلاقات بين الشعوب وتجمعهم من أجل العيش في فضاء أرحب وأشمل.نقلا عن منى سيبوي، كندية عراقية إيرانية تعيش في مدينة شاتوغيه
…إنما القدر شاءصنع القدر حياة ومسيرة الشاب حمدي رزق الله، عندما أبحرت به السفينة، مطلع السبعينيات من القرن الماضي، في عباب البحر من مياه النيل إلى اليونان ومن ثم إلى مقاطعة نيوفاوندلاند ولابرادور في أقصى الشرق الكندي ليحط به الترحال في العام 1975 في مونتريال.

كل عمري أحب الشقاوة والمغامرة، وعندما وصل بي المركب إلى مونتريال، أحببت هذه المدينة منذ اللحظة الأولى وقررت أن أتخلى عن كل شيء وامكث فيها. بحكم صغر سني (18 عاما) لم أفكر طويلا بهذا القرار، ولكنني لست نادما عليه، ففي هذه المدينة عشت أجمل أيام عمري. تزوجت في مطلع الشباب مرة أولى من كندية فرنسية ومرة ثانية أيضا، لي ولدان وبنت، أعشق ما أعمل ولن أطلع عن المعاش ما دام لي النشاط وما دام لي عشق هذا المهنة الوحيدة التي سرّتني في حياتي و أبهجت قلبي.نقلا عن حمدي رزق الله، صاحب مطعم ’’بابا حمدي‘‘
كان والده رجل أعمال مقتدر ولكن الابن كان مخيبا للآمال لأنه ’’يرسب على مقاعد الدراسة ولا يهوى العلم‘‘. يضيف حمدي رزق الله ’’كنت أحزن لأنني لم أكن على المستوى الذي يريده مني والدي، لذلك قررت أن أرحل، طلبت منه بضعة قروش والتحقت بمركب شحن ذاهبة إلى اليونان‘‘. هناك عمل حمدي حدادا وبقي على ظهر السفينة، حيث بدأ القدر بكتابة أول سطر سيغير حياته كلها إلى الأبد.
’’على المركب مرض الطباخ فاستعانوا بي لأعد الطعام، فعملت طاهيا على مدى عام ونصف العام. وصلت المركب إلى نيوفاوندلاند واستقرت بنا لبضع شهور هناك، لننتقل بعدها إلى مونتريال. كان ذلك عام 1975 عندما أعلنت انتمائي إلى هذه الأرض الجديدة واتخذتها ملاذا ووطنا وهوية‘‘.

صحيح أن نيوفاوندلاند جميلة ولكنني لم اشعر بها كما شعرت بمونتريال. لا أدري، أحيانا تذهبين إلى مكان ما وينتابك شعور لا وعي بأن هذا المكان هو بيتك ومطرحك، هذا بالضبط ما حصل معي عندما وطأت قدماي لأول مرة مونتريال.نقلا عن حمدي رزق الله، كندي من أصل مصري
’’رأيت في مونتريال حاجات جامدة‘‘، قال المتحدث بعاميته المصرية، وجدت فيها كل ما يمكن أن يحلم به المرء. إنها مدينة نظيفة، فيها أمان ونظام ومعاملة الناس لطيفة جدا، تشعرين بأنهم ملائكة‘‘. هذا ويؤكد المتحدث بأن هذه المعاملة ’’تغيرت كثيرا اليوم ولم يعد أهل مونتريال بتلك الطيبة التي لمسها لديهم في البداية‘‘.
لم يكمل حمدي رزق الله في الدراسة وقد شغله العمل وكسب لقمة العيش. علما أنه يتحدث اليونانية والانكليزية والفرنسية ’’كنت صغيرا قادرا على التقاط اللغة في ذلك الوقت‘‘، يقول رزق الله. يعلم هذا الأخير من القراءة والكتابة ما يكفيه لإدارة المطاعم التي امتلكها وبرع في إدارتها. كان يعينه ابنه البكر آدم، يشتري مطاعم على شفير الإفلاس، يقوي أرقامها وإيراداتها ويبيعها وهكذا دواليك على مدى أكثر من 40 عاما. هذا الإنسان العصامي لم يشأ أن يكون مصيره أولاده مثل مصيره وأصر على تعلمهم ودخولهم الجامعات.

علّمنا والدي أنا وشقيقي خالد أن كسب المال ليس بالأمر الصعب، لا يجب في كل الأحوال جعله هدفا وإنما نتيجة. وكان شغله الشاغل أن نحصّل الشهادات لتحقيق مستقبل أفضل بالعلم، ما حرم هو منه.نقلا عن آدم رزق الله، نجل حمدي رزق الله
لم أشعر يوما بالغربة بين الكنديين، ومؤمن بمعادلة ’’عامل تُعامَل‘‘يؤكد حمدي رزق الله الذي عاش معظم سنين عمره في مونتريال في أحياء ومدن تسكنها غالبية من الكنديين الفرنسيين ومن السكان الأصليين، بأنه لم يشعر في حياته قط بأي تمييز أو عنصرية بسبب لونه أو أصوله أو انتمائه الديني المسلم. ’’الكنديون شعب مسالم ومنفتح يحترم المهاجر ويعامله من الند للند، إن أنت عاملتهم جيدا فهم يبادلونك المعاملة ذاتها‘‘.
أما أهم صفة يجب أن يتحلى بها الشباب من المهاجرين العرب، فهي ’’الأمانة، أن يكونوا أمناء على أنفسهم وعلى الآخرين، أن يحبوا أنفسهم ويحبوا بالمقدار ذاته الآخر‘‘.

ميزات كثيرة عند المواطن الكندي اكتشفتها بالمعاشرة الطويلة والألفة التي نشأت بيني وبينهم على مدار السنين. إنك عندما تتعرف عليهم جيدا، يبادلك الكنديون المودة من دون مصلحة، إنهم لا يحتاجون منك أي شيء، كل ما يهمهم أن تصير منهم وفيهم. صحيح أنني حققت اندماجا كليا في مجتمعي الكندي ولكني أبقيت على كل الأصول الاجتماعية في بلدي الأم كما أمارس شعائري الدينية المسلمة بكل حرية. ويبادلني الكنديون الهدايا في أعياد المسلمين وأنا أقوم بالمثل في أعيادهم.نقلا عن حمدي رزق الله، وصل إلى كندا قادما من مصر من نحو 47 عاما
(أعدت التقرير: كوليت ضرغام منصف)

Most Popular

Recent Comments