الرئيسيةكندا اليومروسيا: ثنائية الهوية وصراع التاريخ والجغرافيا

روسيا: ثنائية الهوية وصراع التاريخ والجغرافيا


روسيا: ثنائية الهوية وصراع التاريخ والجغرافيا
بقلم: د. راني الكرمي
‏في العام ١٩٩٠ نشرت دورية “يونست” السوفيتية المعروفة مقال للفيلسوف الروسي نقولاي ببرداييف كان عنوانها “مصادر الشيوعية الروسية”.‏ في ذلك الحين كان ‏الاتحاد السوفيتي يعاني للسنة الخامسة على التوالي من آثار خطة إعادة البناء المعروفة بالبريسترويكا. ‏لقلة خبرتي آنذاك، ظننت أن الرقابة قد سمحت بذلك المقال كنوع من التقييم والنقد الذاتي لأداء الحزب الشيوعي السوفييتي. ‏لم أدرك حينها، أنها كانت من المؤشرات الصغيرة لما هو كان مخططا وحتميا. المقالة آنذاك كانت ‏بنفس العنوان لكتاب أصدره بيرداييف في باريس في ثلاثينيات القرن العشرين، بعد أن هاجر إلى فرنسا بعد وقوع الثورة البلشفية في عام ١٩١٧. أحد أهم الأفكار في تلك المقالة كانت تتعلق بنقد التغيرات الجذرية العميقة التي طبقها الشيوعيون الروس في كل مجالات الحياة في روسيا منذ الثورة كالاقتصاد والحياة الاجتماعية وطبعا انهاء الدور الديني في المقام الأول. عزا الفيلسوف تلك التغيرات لأنماط فكرية راديكالية كانت عند الشيوعيين الروس والتي مصدرها (حسب بيرداييف) التأثير الآسيوي العميق في تشكيل الهوية الروسية. فلو إنك سألت ‏ما معنى النسر ذو الرأسين (شعار روسيا القيصرية وشعار روسيا الاتحادية الحالي) لكانت الإجابة السريعة: “رأس ينظر إلى آسيا والآخر إلى أوروبا”. بل حتى الكثير من العادات والتقاليد الحياتية في روسيا تجد لها جذر آسيوي واضح مثل إطعام الضيف وتقديم الخبز والملح عند مدخل البيت كدليل احترام، ما هي الا جزء من عادات القبائل التركية التي كانت تجوب سهول آسيا الوسطى وجنوب روسيا عند حوض نهر الفولجا. حتى ‏صياح الجنود الروس في إستعراضات النصر عند مخاطبتهم، مرددين كلمة “أورا” ما هي الا كلمة ذات أصل  مغولي في الحقيقة. خلص بيرداييف في المقالة الانفة الذكر، ‏إن الروس في الواقع هم قومية آسيويه تسكن أوروبا وليس العكس.
‏في المقابل، مركزية القومية الأوروبية، اعتبرت الروس والأسبان (والإيطاليين وأن كان بدرجة اقل) أطراف شرقية متناقضه مع الهوية الأوروبية النقية. ففي الحالة الروسية نظرت لهم اوروبا على انهم اقل تحضرا بسبب الاختلاط بالثقافة الآسيوية، وطبعا في الحالة الاسبانية بسبب تأثير الشمال الأفريقي عليها. فما عليك الا قراءة انطباعات الرحالة الفرنسي مركيز كوزتان او رجل الأعمال الفرنسي والدبلوماسي لويس فياردوت اللذين سافرا إلى روسيا في القرن التاسع عشر لنفهم الرأي الأوروبي السائد باكراً أن (الروس هم برابرة الشمال اما الأسبان فهم برابرة الجنوب). فالملاحظة الاخيرة تختزل تاريخية النظرة الدونية الأوروبية لهم المستندة على هويات فرنسية والدول الناطقة بالجرمانية والتي تشكل مركزا للهوية الأوروبية.
‏على الرغم من ذلك، سعت روسيا دائما للانتماء إلى أوروبا اكثر من رغبتها للإنتماء لآسيا. وتفسير ذلك يعود لأسباب عديدة منها: الثورة الصناعية في أوروبا وتطور أساليب الاحتكار ونقل الملكية فيها ونشاط الدول الاستعمارية خارج اوروبا، في الوقت الذي كانت فيه روسيا تحتاج بشدة للإنتقال من نظام القنانة والسلطه المطلقة والذي لم تكن آسيا قادرة على توفير اي من هذه النماذج لها. لكن ربما احد الاسباب المهمة هو أن آسيا تاريخيا كانت في غالبيتها بوذية ولاحقا مسلمة ايضا ولم تكون مسيحية. فالتوافق في الهوية الدينية دافع منطقي وقوي للتوجه غربا، اخذين بعين الاعتبار التوسع العثماني في الجنوب من روسيا واعتبار ‏روسيا القيصرية نفسها حامية للكنيسة الأرثوذكسية، بل نظرن موسكو الى نفسها بإعتبارها قسطنطينية الشمال وقباب كنيسة القديس باسيل (ڤاسيلي) هي قباب “الجنة” التي أنشئت بعد تغلب إيفان الرهيب على قازان التترية. ‏اما السبب الآخر، قد يكون تاريخ الصراع مع المغول والقبائل التركية المتحالفة معهم، والذين بقوا في أوروبا الشرقية قرابة الثلاثمائة عام. فالذاكرة التاريخية عن الوجود الآسيوي الفج والقصص عن مقاومة أمراء المدن الروسية مثل كييف ونوڤغرد، لابد أنها كانت حاضرة في الوعي الجمعي الروسي عندما توسعوا في آسيا ‏بالقوة في القرن السادس عشر واستوعبوا بحار التايجا المترامية في سيبيريا ومنها حتى شواطئ المحيط الهادي وشمال الصين.

‏لكن بالعودة سريعا الى يومنا الحالي، وللحرب التي لم تهدأ بعد في أوكرانيا، تفاعل الغرب بنفس المنوال مع روسيا كما مع الاتحاد السوفييتي سابقا، حتى لو لم تعد هناك أسباب أيديولوجية لذلك العداء. فالغرب (وهنا أعني أمريكا ومن يتبعها في أوروبا) يريدون بقاء روسيا محاصرة خارج الجغرافيا والاقتصاد الأوروبيين. فهم يمارسون ‏آليات العقاب والسرقة (مصادرة الأصول الروسية في البنوك الأوروبية والأمريكية) كما تفعل الإمبراطورية دائما مع المتمردين على الأطراف الرافضين لأمان الولاء. فمن باب الغرابة او ربما السذاجة السياسية، انه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ودخول روسيا في آليات الاقتصاد العالمي اغفلت الاخيرة التبعية المترتبة على ذلك الاندماج وعلاقات القوة التي ستنشأ بين مركز المال والأطراف. ‏وهي ما كانت كدولة عقائدية سابقا قد أسهبت في شرحه لنفسها وللعالم أجمع. ‏استعدادات روسيا النقدية منذ العام ٢٠١٤ لهذه الحرب والمتابع لزيارات واتصالات وزير الخارجية لافروف منذ ان بدات الحرب كانت اساسا مع دول آسيوية مثل الهند، باكستان، إيران والصين. بالإضافة إلى زيارته مؤخرا للجزائر. لكن من الصعب تصنيف هذا الحراك الدبلوماسي الروسي الا ضمن ردات الفعل السياسي وتثبيت الحال القائم بلا رؤية عميقة ذات توجه ايدولوجي ترى فيه روسيا نفسها بوضوح وترى علاقاتها بالعالم. وعليه، لعل السؤال الأصعب على خلفية هذه الأحداث السياسية التي يجب أن تطرحها على نفسها القيادة الحالية في موسكو: الم يحن الوقت أن تلتفت روسيا االى بعدها الآسيوي وتغوص أعمق في جذورها هناك؟

Most Popular

Recent Comments