القاهرة- ذاقت مرارة يتم الأم وهي طفلة في الثالثة من عمرها فأصبحت “أمًّا للأطفال”، ووهبت حياتها للطب فكانت “أما للأطباء”، هي رائدة طب المجتمع، الحكيمة التي بلغ صيتها حدود المملكة المتحدة فكرّمها الغرب، ولقبّت بالأسطورة.
في مثل هذا اليوم السادس من مايو/أيار 2002 رحلت عن عالمنا الطبيبة والأستاذة الجامعية زهيرة عابدين، عن عمر ناهز 85 عاما، بعد حياة حافلة كرّست منها قرابة نصف قرن للعلم والإنسانية.
وبلقبين كانا محبّبين إلى قلب الراحلة، لا تزال زهيرة عابدين خالدة بـ”أم الأطباء” و”أم الأطفال”، بعد أن قاتلت في حملة طبية ومجتمعية شرسة ضد الميكروب المسبّب لمرض روماتيزم قلب الأطفال، الذي كان في ذلك الوقت أحد الأسباب الرئيسة للوفيات بين الأطفال في مصر.
لم يقتصر نشاط الراحلة في العمل العام والخيري فقط على الأطفال الفقراء والمرضى بل امتدّ إلى الأرامل والأيتام وكبار السن والطلاب المحتاجين، وتضمنت إسهاماتها في تحسين المجتمع مفهوما شاملا للصحة والرفاهية.
بيت رفيع الثقافة
وكأن الظروف الاجتماعية والثقافية هيّأتها لتصبح شخصية استثنائية عابرة لحدود الزمان والمكان، فنشأت زهيرة عابدين في بيت واسع الثراء ورفيع الثقافة بالقاهرة، كان يجاور بيت زعيم الأمة سعد زغلول، صديق والدها حافظ عابدين عضو مجلس الشيوخ آنذاك.
وفي حوار صحفي نشر عام 1999 تصف نشأتها فتقول إن والدها كان يتمتع بحسّ إسلامي عميق رسخ في أعماقها حب التدين الذي لازمها طوال حياتها، فلازمت الصلاة وكانت تحفظ القرآن منذ طفولتها.
ومع تقدمها في المراحل التعليمية، تولدت لدى الطالبة النابغة رغبة عارمة في التهام الكتب الإسلامية العامة.
وتزوجت عابدين بزميل الدراسة في كلية الطب الدكتور محمد عبد المنعم أبو الفضل، وأنجبت 4 من الأبناء تبوؤوا جميعا مراكز علمية رفيعة.
الأولى دائما
وعن الدكتورة والطبيبة الراحلة، تقول نقابة الأطباء -في فيلم تسجيلي- إن بين عامي مولد زهيرة عابدين ورحيلها (1917 و2002) مسيرة بعنوان “الأولى دائما”؛ فهي الأولى في شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) عام 1936 على القطر المصري.
وكانت أول طبيبة تدخل هيئات التدريس بالجامعات المصرية بعد عودتها من إنجلترا عام 1949، وهي أول طبيبة مصرية تحصل على عضوية كلية الأطباء الملكية في لندن عام 1948، وهي الأولى والوحيدة التي حصلت على الدكتوراه الفخرية من جامعة أدنبرة بالمملكة المتحدة عام 1980، وهي العربية الوحيدة التي حصلت على جائزة “إليزابيث نورجال” العالمية عام 1992.
حكيمة قلوب الأطفال
تشير نقابة الأطباء إلى أن زهيرة عابدين كانت نموذجا للمعنى الحقيقي للحكيمة التي تؤمن بأن الطب رسالة ورحمة وليس مجرد مهنة، لذا أسست تخصصا جديدا من نوعه في كلية الطب يعرف بطب المجتمع، ويحتّم على الطبيب النزول والمشاركة للتعرف على المشاكل الصحية على الطبيعة.
وتخصصت عابدين في طب الأطفال والروماتيزم، فقدمت أبحاثا علمية بلغت 120 بحثا نشرت في مجلات علمية عالمية، بعد أن اكتشفت الميكروب المسبّب لروماتيزم القلب لدى الأطفال.
وفي أقل من عقدين من الزمن، انخفض معدل وفيات الأطفال بمصر، الناجمة عن أمراض القلب الروماتيزمية بفضل نشاطها العلمي والبحثي من 47% إلى أقل من 3%، وفق ما ذكرت ابنتها منى أبو الفضل، في مقال منشور بموقع كلية الأطباء الملكية في لندن.
وخلال مسيرتها المهنية، أنشأت زهيرة عابدين العديد من المؤسسات الطبية، منها مركز الهرم الروماتيزمي للقلب (عام 1957) وفروعه في كليات الطب بجميع أنحاء مصر، وفي عام 1975 أنشأت معهد صحة الطفل بالقاهرة لتوفير نظام متكامل وشامل لرعاية الأطفال، وفق المصدر السابق.
وفي عام 1986 أنشأت كلية دبي الطبية للبنات وعكفت -كما تقول ابنتها- على إدارتها 7 سنوات، نالت عليها تقديرا عالميا من الهيئات العلمية بإنجلترا وأميركا، كما أسست جمعية الطبيبات المصريات وكانت محررة العدد الأول من مجلتها.
رائدة مجتمعية
امتد نطاق نشاط زهيرة عابدين في العمل الخيري والعام، ليس فقط إلى الأطفال الفقراء والمرضى، ولكن أيضا إلى الأرامل والأيتام والطلاب وكبار السن والمحتاجين، فقد تضمنت إسهاماتها في تحسين المجتمع مفهوما شاملا للصحة والرفاهية.
وأسست سلسلة من مدارس اللغات الإسلامية المنفتحة وذات الجذور الثقافية، وبناء على طلب من وزارة الشؤون الاجتماعية في مصر ترأست جمعية الشابات المسلمات.
وبـ700 جنيه رأس مال جمعيتها الخيرية أنشأت مشروعات بملايين الجنيهات، لتخفيف آلام الناس وأوجاعهم، ولإخلاصها الشديد في هذا العمل التف حولها كثيرون منهم أساتذتها وأيضا تلاميذها.
ونالت عابدين تقدير جميع من عاصروها من زعماء وساسة ورجال دين، فحصدت العديد من الجوائز ليس في وطنها فحسب بل على المستوى الدولي؛ تقديرا لدورها العلمي والمجتمعي.
واستحقت عن جدارة وسام الاستحقاق الجمهوري من الدرجة الأولى، كما حصلت على اللقب الفخري “أم الأطباء المصريين”، ومنحتها الجائزة السيدة الأولى -وقتئذ- سوزان مبارك في احتفال رسمي عام 1990.
ولم يكن أي مسؤول في أي موقع يتردد في الاستجابة لطلباتها ثقة بها وبحسن تخطيطها وإنجازاتها، وساعدتها شخصيات عامة كثيرة منهم رجل الأعمال والسياسي المعروف عثمان أحمد عثمان، وطلعت حرب، حسب ما ذكرت ابنتها لنقابة الأطباء.
وكان الداعم الأكبر لمشاريعها العلمية والخيرية -وفق المصدر السابق- كوكب الشرق أم كلثوم التي أقامت حفلات من أجل التبرع لمشاريعها الخيرية.
وبعد أن كرّست حياتها للخدمة العامة والتميز المهني، وحصلت على العديد من الجوائز، سواء في وطنها أو على المستوى الدولي، أصيبت عام 1992 بسرطان الثدي، لترحل عن عالمنا بعد معاناة 10 سنوات مع المرض في السادس من مايو/أيار 2002، مخلفة من ورائها إرثا كبيرا من العطاء المجتمعي والأكاديمي والعملي.