الرئيسيةمنوعات عالمية"ألوان الفراعنة".. ترجمة للواقع ومعتقدات "العالم الآخر"

“ألوان الفراعنة”.. ترجمة للواقع ومعتقدات “العالم الآخر”

تميز النصف الأول من العام الجاري بسلسلة من الاكتشافات الأثرية في مصر، كان أكثر ما لفت الأنظار إليها هو احتفاظ الكثير من القطع بألوانها المتعددة، حتى أن بعض التوابيت والتماثيل خرجت من تحت الرمال كأنها أودعت فيها بالأمس.

من أبرز هذه الاكتشافات التي أعلنتها وزارة الآثار المصرية في هذه الفترة، مدينة صعود “آتون” في الأقصر، ولوحة الملك أمنحتب الثاني في معابد الكرنك بالأقصر، وآبار وتوابيت الدفن والمعبد الجنائزي الخاصة بالملكة “نعرت” زوجة الملك “تتي” في منطقة سقارة بالجيزة.

ومن أكثرها وضوحا وتميزا في ألوانها الساطعة هي اكتشافات سقارة، حتى ثارت من جديد علامات التعجب والاستفهام حول نوعية المواد التي استخدمها قدماء المصريون في صناعة الألوان وتثبيتها، وما إن كان لاستخدام كل لون فلسفة خاصة تجعل معناه يختلف عما اعتادت أن تفسره عيوننا للألوان اليوم.

سر البيئة

يشرح كبير الأثريين في وزارة الآثار المصرية، الدكتور مجدي شاكر، أن السر في فن الألوان بالحضارة المصرية يعود إلى استخدام الأحجار الطبيعية من الأودية والجبال الموجودة بالأقصر في الوجه القبلي بمصر وفي جنوب سيناء، والتي تحتوي على أحجار متدرجة الألوان ما بين الأحمر والأخضر والأصفر.

أما عن تثبيت الألوان، فيقول شاكر إن مرحلة تثبيت اللون الطبيعي في النقوش والرسومات اعتمد فيها المصري القديم على مواد مستخلصة من صمغ الأشجار والبيض، إضافة إلى مواد كيماوية يمكن اكتشاف سر تركيبها عبر دراسة وتحليل ألوان المقابر.

وفي رأي الباحث الأثري، بسام الشماع، فإن دراسة المصري القديم لعلوم الجيولوجيا والجغرافية والطقس، عامل مهم في اختيار البيئة المناسبة بعملية البناء؛ مما ساعد على بقاء الألوان بحالتها في المقابر والمعابد.

ويشير في حديثه إلى أن الأماكن الجافة البعيدة عن مصادر الفيضان والرطوبة مثل وادي الملوك والملكات، ودير المدينة بالأقصر، ما زالت تحتفظ بألوان النقوش والرسومات، أما احتفاظ المعابد المكشوفة للهواء والشمس ببعض الألوان، فدليل قوي على براعة المصري القديم في صناعة الألوان، لأنها أكثر عرضة لتقلبات الطقس من المقابر.

نماذج للألوان

ويضرب الشماع مثلا بأن معبدي أبيدوس بسوهاج وهابو بالأقصر من أكثر المعابد المتميزة في ألوان الجدران حتى اليوم، منوها إلى أن عامل الوقت يعد عنصرا مهما لإتقان فن الألوان بالمقابر والمعابد.

ويشرح نقطة الوقت هذه بالقول: “تعد مقبرة الملك رمسيس التاسع مثالا حيا لعنصر الوقت لاكتمال الألوان، حيث تتميز ألوان مدخل المقبرة بجمالها ووضوحها رغم مرور 3 آلاف عام، وتظهر الغرفة التالية منحوتة دون اكتمال النقوش والألوان، وغرفة الدفن صغيرة للغاية في حالة رديئة بمستوى سقف منخفض ملون”.

وفسر سبب عدم اكتمال المقبرة إلى وفاة صاحبها؛ مما دفع العمال للانتهاء من المقبرة وغرفة الدفن في 70 يوما فقط (فترة تحنيط المتوفي).

ويتميز معبد مدينة هابو بالنقوش والألوان ذات الطابع الحربي، للإشارة إلى المعارك التي قادها الملك رمسيس الثالث، بينما قدم معبد أبيدوس نموذجا مختلفا في الألوان والرموز لتداخل الحروف والنقوش معا.

رمزية لا عشوائية

ولم يكن اختيار الفنان المصري لدرجات الألوان في النقوش محض الصدفة، بل حمل كل لون دلالة محددة تطورت بتطور الفن على مدار العصور والأسرات.

فمثلا اللون الأزرق بمختلف درجاته هو لون مبهج لدى قدماء المصريين، إذ يرمز إلى لون السماء، حتى عرف بأنه لون مصري لاحتواء أغلب الرسومات عليه، بحسب شاكر.

وعن بقية الألوان، قال: “رمز الفن الفرعوني إلى الأرض والعطاء باللونين الأسود والأخضر، كما استخدم اللون الأخضر في الرمز للمياه؛ لذا صمم تمثال الملكة أحمس نفرتاري باللون الأسود رمزا للأرض والعطاء”.

واختير اللون الذهبي والأصفر- بحسب الخبير- لتماثيل الملوك في إشارة إلى لون الشمس، إضافة إلى دلالة اللون الأحمر على قوتي الخير والشر، مثل تمثال المعبود سيت “رمز الشر” في الحضارة المصرية؛ مما يعني أن الألوان حملت رموزا دينية أيضا.

وينبه إلى أن فن الألوان في حضارة مصر وضعت له قواعد، بداية من اختيار الرسومات وألوانها داخل المقبرة بشكل معين، وداخل غرفة الدفن بشكل آخر.

ورسُم الأشخاص في 114 مربعا، بينما رسُمت الحيوانات ما بين 60 إلى 70 مربع على الجدران، إضافة لرسم وجه الشخص المتوفى من الجانب داخل المقبرة.

وأوضح أن جميع الرسومات لم تحمل توقيع فنان واحد، نظرا لأن هذه القواعد كان تخضع لسلطة الكهنة وليس شخص معين.

الواقع والعالم الآخر

ويحتوي المتحف المصري بوسط القاهرة على تمثال للملك “منتوحتب الثاني” في وضع الجلوس، يرتدي فوق رأسه تاجا أحمر اللون ويظهر بساقين ضخمتين ووجه ويدين ملونة باللون الأسود.

ويرجع الشماع سبب نحت ساقي التمثال بهذا الحجم، إلى إصابة الملك وقتها بمرض “داء الفيل” الذي انتشر خلال هذه الفترة في وسط إفريقيا، إضافة إلى أن اللون الأسود هو لون بشرة منتوحتب الثاني، والتاج الأحمر دليل على توحيد البلاد مرة أخرى في الدولة الوسطى.

ويوجد تفسيرات أخرى لهذا الأمر، تتعلق بأن اللون الأسود هو رمزية للون التربة والخصوبة، خاصة أن التمثال منحوت على هيئة أوزيرية، حيث كان أوزير رب الخصوبة الناجمة عن طمي مصر الأسمر، وأكثر تماثيله ملونة إما باللون الأسود أو الأخضر.

وتضخم القدمين له تفسيرات أخرى أيضا، تتعلق إما بعدم إتقان النحات لصنع هذا التمثال في فترة كانت مصر تكاد تخرج فيها من عصر فوضى سابق، أو أن الفنان أراد التعبير عن عظمة حاكمه بتمثال ضخم، ولكن خرجت القدمان أكبر مما يجب.

أما عن ارتباط الألوان بالحرب والعالم الآخر، يقول الشماع إن “الملك توت عنخ آمون ظهر بالتاج الأزرق (خبرش) بألوان زاهية، وهو تاج المعارك الحربية ودليل القوة والإرادة العسكرية في رسومات على جدران مقبرته، من أجل الظهور أمام المعبودات بمظهر القائد وتحول هذه الألوان والنقوش إلى حقيقة في العالم الآخر”.

ويختتم الشماع حديثه بالقول إن استخدامات الألوان في الحضارة المصرية، اختلفت باختلاف الإشارات الطقسية والدينية، أو بغرض محاكاة الحقيقة أو إظهار مظاهر الجمال والرقي والفن.

 

Most Popular

Recent Comments