تحتضن العاصمة الجزائرية، أو كما يُطلق عليها “البهجة” أو “المحروسة”، عدة حدائق عريقة ومنتزهات جميلة يعود تاريخ تأسيسها إلى عقود بعيدة، وتضفي اليوم على العاصمة طابعا جماليا وسياحيا يختلط أخضر أشجارها وأحمر ورودها بأبيض عمرانها الشاهق على مرتفعات “المدينة البيضاء”.
تُعرف المدن في العالم بحدائقها الجميلة ومساحاتها الخضراء الواسعة، فزيارة نيويورك بلا زيارة حديقة “سنترال بارك” لا معنى لها، وكذلك “بارك جويل” في برشلونة بإسبانيا.. فالحدائق هي التي تخفف عن المدن وطأة ضجيجها وحركتها وتزيد من شغف زيارتها.
كما أن الحدائق التي تجذب طلاب الراحة والهدوء والسياح الأجانب، ألهمت الشعراء والفنانين بدورهم، كما ألهمت حديقة “هايد بارك” اللندنية الشاعر الراحل نزار القباني، الذي ربطها بالديمقراطية البريطانية.
وبدورها كذلك، ارتبطت الجزائر العاصمة أو “البهجة” كما يحلوا لسكانها وصفها، بالحدائق التي تحولت في مدينة سيدي عبد الرحمن، إلى ديكور أخضر يحيط بها، لتمنح لسكانها وزوارها قليلا من الهدوء والراحة في مدينة لا تتوقف فيها الحركة إلا قليلا.
أسرار وأساطير
ومن بين أجمل الحدائق العامة التي تزخر بها الجزائر العاصمة، “حديقة الحرية”، وسابقا “بارك دو غالون” كما كانت تسمى خلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية. وقد زارها لإعادة اكتشاف بعض من أسرارها المدفونة، في يوم ربيعي أضفى على المكان سحرا خاصا.
تقع “حديقة الحرية” في أعالي شارع ديدوش مراد، أحد أكبر وأشهر الشوارع في الجزائر العاصمة، وقد تم بناؤها على منحدر، حسب بعض المعلومات التاريخية، في مساحة 3 هكتارات.
وتعود فترة تشييدها إلى عام 1915 على يد الفرنسي “شارل دو غالون”، الذين كان حاكما على المدينة خلال الحقبة الاستعمارية، وتم إعادة تهيئتها وتجديدها سنة 2018، لتعود إليها الحياة ويرجع إليها زوارها الذين افتقدوها.
ومن بين الأساطير التي تروى عن هذا المكان، أن العجائز في وقت سابق كن يتخذن من هذه الحديقة مكانا للخياطة والنسج، ومما ينتج من الألبسة يتم توزيعه على الفقراء، أو يقدم كهدايا للجيران الذين كانوا يلتقون في هذا الفضاء الهادئ.
فضاء سياحي بامتياز
عند دخول الحديقة، تقابلك صخرة كبيرة حولها حوض ينساب منه الماء كشلال صغير من الجهتين اليمنى واليسرى، محدثا خريرا ممزوجا بزقزقة العصافير، يوحي إلى الزائر وكأنه يهم بالدخول إلى غابة وليس إلى فضاء عمومي.
وهنا تقابلك لوحة مشدودة على الصخر تعود إلى فترة تدشين هذا الصرح الأخضر من طرف الفرنسي شارل دو غالون، الذي رأس بلدية مدينة الجزائر بين عامي 1910 و1919 خلال الفترة الاستعمارية.
وتضم “حديقة الحرية” الكثير من الأشجار والنباتات الخضراء التي تملأ أركانها، مثل الصنوبر والزان، كما تتوسط الحديقة نافورة مياه كبيرة، وتُوزع المقاعد في كل جهة لزوارها الباحثين عن فضاء للسكينة والهدوء والتقاط الصور.
وإضافة إلى مكوناتها الطبيعية، في هذا المكان مغارات صغيرة تضفي سحرا داخله، كما أن السلالم الحجرية التي تؤدي بالزوار إلى الأعلى، حيث البساتين تعيد إلى الأذهان صور “حدائق بابل المعلقة” في شكل مصغر.
كما يتوسط الحديقة فضاءان آخران من أبرز المعالم السياحية الموجودة في شارع ديدوش مراد، المعروف بحيويته التجارية ونشاطه الثقافي، بوجود عدة مكتبات وأروقة للفن التشكيلي، إضافة إلى احتضانه لمقر اتحاد الكتاب الجزائريين وعمرانه المكسو بالطراز الأوروبي، فهي بين المتحف الوطني “باردو” ومن الجهة السفلية تسبقها كنيسة “القلب المقدس”.
استنشاق الذكريات
وأصبحت “حديقة الحرية” في الفترة الأخيرة قبلة لعشاق القراءة ورواد المطالعة في أحضان الطبيعة، كما أنها تستضيف في العديد من المرات معارض فنية ولقاءات ثقافية، وتحتوي فضاء بعنوان “فنون وثقافة” مخصص للكتب والقراءة.
وفي هذا السياق، سأل سيدة كانت ترافق ابنيها الصغيرين، عن سبب زيارتها لهذه الحديقة مقارنة بالحدائق الأخرى المتواجدة في الجزائر العاصمة.
فأجابت المرأة بابتسامة: “هذا المكان يذكرني بطفولتي، كنت آتي إلى هنا مع والدي لتسلق الأشجار والركض بين هذه البساتين، واليوم أرافق أبنائي لأتذكر معهم أيامي في هذه الحديقة الجميلة، خاصة أن المرفق أصبح آمنا جدا”.
في الجهة الأخرى، كان مجموعة من الشباب مستلقين على مساحة خضراء بين ظلال الأشجار، مضيفين جوا من البهجة، عن طريق عزف الموسيقى بآلات القيثارة، وترديد أغان مستوحاة من الشريط الغنائي لمدينة الجزائر.
وهكذا يبقى باب “حديقة الحرية” مفتوحا أمام المارة من الزوار والسيّاح، فبمجرد المرور أمامه يتملكك الفضول لدخول هذا الصرح الأخضر بالنظر إلى ديكوره الجميل وهندسته البديعة، وهروبا من ضجيج الطريق الرئيسي المقابل.