لم تختلف ظروف السيدة الألمانية بيترا بيكر كثيراً عن ظروف أي أمٍ سورية، إذ اضطرت بترا مغادرة سوريا مع عائلتها بعد بداية الأحداث فيها، لتبدأ بعد فترة من ألمانيا مشروع «باك او ذا تراك» لتعليم الأطفال ذاتياً في العاصمة الألمانية برلين، في محاولةٍ منها لمساعدةِ الأطفال اللاجئين الذين اضطرتهم ظروفهم للانقطاع عن الدراسة
تقول بترا لـ»مهاجر نيوز» «درست في سوريا خلال سنوات الثمانينيات، وعدت إليها في العام 2002، حيث تزوجت وعشت مع عائلتي في دمشق، لكن مع بداية 2012 اضطررت لترك دمشق ككثيرٍ من الأسر السورية، وعندما وصلنا إلى ألمانيا، واجهت بناتي مشاكل في التعلم مع إنهن يتقن اللغة الألمانية لكن النظام التعليمي مختلف، كما أني لاحظت أن العديد من أصدقائهن لم يتمكنوا من متابعة تعليمهم أو عانوا من صعوبات، ما أثر فيني بشكل كبير، وخلال فترة عملي في مركزٍ للدراسات في برلين كنت اضطلع على التقارير حول وضع التعليم عند الأطفال النازحين واللاجئين ما دفعني للتفكير بهذا المشروع».
ننطلق مما يحبه الأطفال
في حديقة جمعية أحد الأحياء في منطقة (ليشتنبرغ) في شرق العاصمة، وتحت شمس برلين الخجولة، يلعب الأطفال الذين يحضرون كل سبتٍ تقريباً مع آبائهم، حيث يحرص والدي حوالي ثلاثين طفلاً على إحضار أطفالهم كل أسبوع لتقوية مستواهم التعليمي، والتعلم بطريقة ذاتية، وتعلم اللغة ايضاً ضمن المشروع الذي أسسته بترا، فما هو التعليم الذاتي؟ وكيف يساعد الأطفال اللاجئين؟
تشرح بترا «الفكرة الأساسية للمشروع هي دعم الأطفال اللاجئين الذين يتكلمون اللغة العربية كلغةٍ أم، حتى يتمكنوا من التأقلم مع النظام التعليمي في المدارس بصورة أسرع، سواء في ألمانيا او دول الجوار، والتعليم الذاتي هو طريقة تعليمية حديثة تسمح لكل طفل التعلم بصورة منفردة، بحسب استعداده فكريا ونفسيا، وبحسب إيقاعه الخاص من حيث التطور الفكري، فعندما يحضر الطفل مع والديه، نجلس معه ومع الوالدين، لنتعرف على مواهبه، ماذا يحب، ما هي هواياته، ما هو مستواه الدراسي، كم من الوقت مضى على وصوله إلى ألمانيا، وإلى أي مرحلة تعليمية وصل في بلده، وكم المدة التي انقطع فيها عن المدرسة، ليتم تحديد حاجاته الأساسية والبرنامج المناسب له، والأهم أن الطفل يجب أن يشعر أنه ليس في المدرسة، ولا يتم تعليمه دون إرادته «وبعد ذلك يتم إجراء سبر معلومات له بالمواد الأساسية التي هي الرياضيات والعربي واللغة الإنكليزية»
وتضيف السيدة بيكر بعربية فصيحة «نعتمد على برنامج الوحدات الدراسية الصادر عن منظمة اليونسيف، ونقوم بتوزيع هذه الوحدات على الأطفال، حيث تتفاوت قدرات كل طفل حسب عمره ومستواه واهتماماته، لكن الأهم أن جميع الأطفال الذين أتوا إلى هنا يشعرون بأن هناك من يفهم عليهم، عكس المدرسة التقليدية، ما يعطيهم شعور بالارتياح، كما أن البرنامج يساعد الأطفال الذين مروا بضغوطات أو ظروف خاصة وربما صدمات، مما دفعهم لفقدان التركيز أحياناً، ومن خلال التعلم الذاتي نعيد للأطفال ثقتهم بأنفسهم، حيث يشعر كل طفل أنه قادر على مساعدة نفسه وهو غير عاجز
ليس للأطفال فقط!
وتتابع بترا شرحها «لكي نتمكن من العمل بهذا المجال، لا بد من توفر كوادر تعليمية، وهنا يأتي الشق الثاني من المشروع». إذ تصبح الفئة المستهدفة هي الأطفال والأساتذة بآنٍ معاً، حيث يتم الاعتماد على أساتذة من اللاجئين، والعمل على مساعدتهم في التدريب للتعامل مع الأطفال المصابين بالصدمة، وتدريبهم على نظام التعليم الألماني، وطريقة التعليم الذاتي، كما تجري حاليا دورة تأهيلية للأساتذة مدتها سنة.
لا يعتبر الأطفال والأساتذة هما الفئتان الوحيدتان اللتان يستهدفهما مشروع «باك أون ذا تراك»، إذ أن الأهالي الذين يرافقون أطفالهم إلى حصص التعلم الذاتي، وجدوا في فترة الانتظار فرصةً سانحة لممارسة اللغة الألمانية، فأصبحت قاعة الانتظار أشبه بمقهى لغوي، يتحدث فيها الآباء مع بعضهم بالألمانية، بينما يحرص العديد من المتطوعين الألمان واللاجئين على المجيء لمساعدتهم في تحسين مستواهم باللغة الألمانية.
مريم إحدى المدرسات وأم لإحدى الطفلات اللواتي يستفدن من المشروع تقول لـ»مهاجر نيوز» «بدأت باصطحاب ابنتي إلى هنا بعدما قرأت عن المشروع، وعندما أتيت تبين لي أنه بإمكاني المساعدة، فبدأت بتعليم الأطفال اللغة العربية، وأشعر أن ابنتي قد بدأت تحرز تقدما في مدرستها، وتنال علاماتٍ جيدة، كما أنها تتعلم كيف تتعامل مع الآخرين هنا»
الخروج خارج دائرة المكان
لا يقدم المشروع دعماً فكرياً فقط من خلال دروس التقوية، إذ تقوم مجموعة من المتطوعين من اللاجئين والألمان بتنفيذ نشاطاتٍ ترفيهية تعليمية بعد حصص التقوية، فيما يعتبر الهدف الأساسي بنظر محمد أحد المتطوعين، «هو تعلم كيفية التواصل مع الأطفال الآخرين، وتخطي السلوك العنفي عند بعض الأطفال».
تقول بترا «عندما بدأنا، كنا نعمل بنزل للاجئين، وكان المكان جيد على اعتبار أن الأطفال متواجدين في المكان، لكن بعد فترة كان الأطفال يضطرون لتغير النزل، أو يخرجون منه، لذلك لم يكن لدينا القدرة على الاستمرارية، وعندما انتقلنا إلى هنا تطلب الأمر شيئا آخر، هو إرادة الأهالي لاصطحاب أطفالهم إلينا أسبوعياً، ولاحظت أن إدراك الأهل لوجود مشكلة عند أطفالهم في التعلم لا يرتبط بمستوهم التعليمي، فهناك أسر غير متعلمة لكنها تتنبه لضرورة مساعدة أولادها».
وتتابع بترا «سنعمل مع مدرستين يحويان اطفالاً لاجئين قريباً، والآن هناك مدرسة أرسلت لنا مدرستين لحضور برامجنا، لكننا نحتاج للتمويل الكافي من أجل ضمان التزام من يعمل معنا، ونحن اليوم نعتمد على بعض التبرعات، لكنها لا تكفي سوى أجار بعض الغرف في المكان، ورغم أن مشروعنا حظي بجائزة الجمهور لإعجاب الناس به في مسابقة «آكت فور إمباكت» للمشاريع المجتمعية، لكننا لم نتمكن من الفوز بالمسابقة لعدم وجود مصادر تمويل تضمن استمرارية المشروع وهذا ما نسعى إليه».