لم تمضِ سوى ساعات قليلة على التصريحات الصادمة لرئيس الوزراء التركي السابق والقيادي المؤسس لحزب العدالة والتنمية أحمد داوود أوغلو، التي أشار فيها إلى اعتقاده باستحالة التوصل إلى أي اتفاق بين تركيا واليونان بشأن القضايا العالقة بينهما، من المسألة القبرصية إلى تحاصص حقوق التنقيب في مياه شرق المتوسط، حتى أعلنت اليونان بشكل مفاجئ زيادة مدة الخدمة العسكرية الإلزامية للمجندين من 9 أشهر إلى 12 شهرا.
وقد يخلق هذا الأمر مزيدا من الحرج والضغوط على حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، التي تدفع بتعاملها مع اليونان نحو استراتيجية الأخذ عبر الضغوط العسكرية.
ويعني القرار اليوناني الأخير بأن أعداد أفراد الجيش اليوناني سيزيدون بمقدار الربع، من قرابة 350 ألفا بين متطوع ومُجند حاليا، إلى نصف مليون، وهو عدد يقارب تعداد الجيش التركي (700 ألف حسب الأرقام الرسمية)، بالرغم من الفارق الكبير في أعداد السكان، حيث يبلغ تعداد سكان تركيا ثمانية أضعاف سكان اليونان.
لكن الموقف اليوناني الأخير، بالإضافة إلى قرارات أخرى اتخذت خلال الشهور الماضية، تثبت استعداد اليونان لأكثر الظروف حرجا في علاقتها مع تركيا.
التوجه العددي اليوناني جاء بعد قرارات تسليح صعبة اتخذتها الحكومة اليوناني طوال الشهور الماضية.
فبالرغم من الأزمة الاقتصادية التي كانت تعاني منها البلاد، قررت الحكومة اليونانية الحصول على طائرات «إف 35» العسكرية الأميركية باهظة الثمن، وقد تشجعت الحكومة اليونانية لذلك القرار في الصيف الماضي، بعد القرار الأميركي بإخراج تركيا من صفقة كان يجب أن تبرم معها لشراء نفس النوع من الطائرات، الأمر الذي منح سلاح الطيران اليوناني ميزة تفوق إضافية على نظيرتها التركية.
وتحظى اليونان بدعم أوربي عسكري استثنائي منذ أوائل العام الماضي، حينما أوحت تركيا بابتزاز عسكري تجاه اليونان، لدفعها نحو التنازل عن حقوقها الشرعية في الجزر اليونانية القريبة من السواحل التركية.
فقد أرسلت فرنسا فرقاطات بحرية تضامنية مع اليونان، كما أعلنت التوصل معها إلى اتفاق بشأن طائرات «رافال» العسكرية المُحدثة، كذلك أعلنت الولايات المتحدة تضامنها مع اليونان، وتفكيرها بنقل قاعدة إنجرليك العسكرية من الأراضي التركية إلى اليونان.
سعي الحكومة اليونانية لتنمية قدراتها العسكرية لمواجهة ما تتعرض له من قِبل تركيا، ترافق مع جهود اقتصادية ودبلوماسية تبذلها الحكومة اليونانية لخلق جدار مواجهة متوسطية كامل مناهض لطموحات تركيا لتجاوز حقوقها الشرعية، فقد وصل وزير خارجي اليونان نيكوس ديندياس إلى العاصمة المصرية القاهرة صباح يوم 8 مارس على رأس وفد وزاري يوناني.
ألكسندروس بابايوانو المتحدث باسم وزارة الخارجية اليونانية قال قبل بدأ الزيارة بساعات قليلة بأنه «ستتم خلال الزيارة مناقشة العلاقات الثنائية، ومجمل الوضع السياسي، والتعاون الاقتصادي، وأيضا التعاون في قطاع الطاقة، كما سيتم التطرق لمناقشة القضايا الإقليمية سواء التطورات في شرق المتوسط أو الوضع في ليبيا وسيتم أيضا التركيز على متابعة «منتدى الصداقة» الذي عقد مؤخرا في أثينا»، الأمر الذي فسره مراقبون على أنه بمثابة إشارة واضحة لتركيا.
فالزيارة الحالية جاءت بعد رسائل مغلفة أرسلتها تركيا إلى كل من اليونان ومصر، «حذرتها» فيها من مغبة توقيع اتفاقيات عسكرية مناهضة لها.
مراقبون متابعون لملف النشاطات العسكرية والأمنية التركية خارج حدودها الجغرافية، أشاروا إلى أن هذا الاستعداد والتنامي في القدرات العسكرية اليونانية في وجه تركيا، ناجم عن خسارة تركيا للدعم الأميركي التقليدي لها، كما أن تغيّر الإدارة الأميركية أفقد تركيا تلك الميزة.
وأشار تقرير تفصيلي نشره «المجلس الأطلسي»، إلى حساسية الموقف التركي الراهن: «تحتاج كل من تركيا واليونان، وكذلك المنطقة، إلى مشاركة أميركية. لا يوجد بلد أو كيان آخر في وضع يمكنه التوسط أو دعم أو الضغط على الجانبين للتعايش بشكل منتج. الاتحاد الأوروبي، الذي بذل جهودا لتحمل مسؤولية أكبر عن منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط سيظل، طالما أن اليونان وقبرص عضوين وتركيا ليست كذلك، غير حيادي في مسألة الطرفين».
وأكمل التقرير حول غياب ذلك التوازن الذي كان لصالح تركيا تقليديا: «في الوقت الحالي، فإن قدرة الولايات المتحدة على التوسط وإدارة التوترات مهددة بالديناميكيات المتغيرة للعلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا. إذ تزامن فك ارتباط الولايات المتحدة البطيء عن المنطقة، والذي بدأ خلال إدارة أوباما واستمر خلال إدارة ترامب، مع تدهور العلاقات الأميركية التركية. كان هذا التدهور في العلاقات الثنائية ناتجا عن عدد من القضايا، كان أكثرها تحديا شراء تركيا لنظام الدفاع الصاروخي الروسي الصنع (إس 400) في ديسمبر 2020، حينها فرضت إدارة الرئيس ترامب عقوبات على تركيا بموجب قانون مكافحة أعداء أميركا من خلال العقوبات (CAATSA) ردا على شرائها نظام الدفاع الصاروخي».
دورية «جورناليزم بوست» نشرت مادة تحليلية عن تنامي حساسية العلاقة العسكرية بين تركيا واليونان، كتبها سياث فرانتزمان، أشار فيها إلى فقدان تركيا للوسطاء والضاغطين الذين كانت تظنهم أقرب إليها: «في حين أن هناك طيفا واسعا من الآراء داخل الكتلة الأوربية، حول كيفية التعامل مع تركيا بشأن علاقتها مع اليونان، من المواجهة إلى التصالحية، فإن الاتحاد الأوروبي دائما ما ينحرف لصالح اليونان من أجل تضامن الدول الأعضاء. لقد كان الناتو منصة فعالة لتسهيل المفاوضات بين تركيا واليونان، على مدار العام الماضي، بذل الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ جهودا قوية لتهدئة التوترات بين البلدين، ومع ذلك، فإن الناتو يفتقر إلى سلطة قوة اللحمة الداخلية، بسبب غياب الولايات المتحدة».