قصة «عوني» ليست كباقي القصص ففيها الكثير من التحدّي الممزوج بالإصرار والطموح والمثابرة، ولعل أهم ما فيها تحويل الظلمة السوداء إلى نور يضيء طريق النجاح في رحلة شاقة من التعب والسهر.
هي قصة نجاح اللبناني ابن بلدة شحيم الشوفية الذي لمع اسمه في بلاد الغرب دون أن يراها، أو حتى أن يعرف طبيعة تربتها وشكل طرقها وملامح أهلها، كل ما عرفه عنها هو احترام أهلها لإعاقته البصرية التي لم يستسلم لها تاركاً بلده الأم لبنان إلى عالم أكثر احتراما لقدراته وصفاته المميزة.
عون الله علي قشوع، ابن الـ58 عاما المتزوج من المربية ميرفت الحجار، وعلى الرغم من الحظ الذي حالفه بمثابرته على تحصيله العلمي والثقافي، ألا أنه لم يحالفه ليصير أبا كأي إنسان يطمح ليشكل عائلة طبيعية مكتملة.
إلى جانب الجنسية اللبنانية يحمل عون الله الجنسية البريطانية ويفتخر بها.
الحديث معه كان مؤلماً ولم يكن من السهل أن تستمع لألمه دون دموع ليست دموع الشفقة إنما حسرة على كثيرين يتمتعون بنعمة البصر ولم يذوقوا يوماً طعم النجاح والفوز.
عوني الذي حرم نعمة البصر أنعم الله عليه بنعم كثيرة، برباطة الجأش وقوة الإرادة التي مكنته أن يترك بلده الأم إلى بلاد غريبة لا يعرف فيها أحداً ليدرس ويعمل فيها في حقلي الإعلام والعلاج الفيزيائي ثم ليصل به الأمر إلى أروقة وزارتي الداخلية والعدل في العاصمة لندن.
رحلة حياة تكللت بالنجاح والتفوق، مليئة بالإثارة والتشويق والتضحية وهو اليوم مترجم محلف لدى محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية، وهو منتدب المملكة المتحدة البريطانية للغة الإنجليزية ومترجم في وزارة العدل ووزارة الداخلية والهجرة هو ابن شحيم، عون الله قشوع، صاحب الشعار: «لا فشل مع الإصرار والإرادة».
ويقول قشّوع في حديثه لـ»سكاي نيوز عربية «: «علينا أن نأخذ بعين الاعتبار قدرة الانسان على الإنجاز وقوة الإرادة».
ويرى «أن على كل إنسان لديه إعاقة جسدية أن يراجع حساباته فليس أجمل من الاعتماد على لنفس فهو المفتاح الرئيسي للحياة السعيدة».
رحلة العذاب
تتحدث مع الدكتور عوني الحاصل على الشهادات في الدراسات العليا والجدارة، تصغي إلى قصته المشوقة، لكن على مراحل، تطلب منه أن يتمهل في الكلام حتى تتمكن من التقاط أنفاسك… تكاد تشعر بالاختناق كلما تخيلت ما مر به من مرارة وعذاب، إلى أن تصل معه إلى النهاية السعيدة.
يقول عوني، وهذا اللقب الذي يعرف به: «بدأت حياتي عاملاً فندقياً، في عام 1982 وفقدت بصري وأنا في السابعة عشرة من العمر بسبب حادث شخصي أليم في لبنان، سافرت إلى روسيا في محاولة يائسة لإنقاذ حاسة البصر ولكن دون جدوى، عدت والتحقت بعدها بمعهد الضرير في مدينة بعبدا في جبل لبنان لعدة سنين.
إلى بريطانيا
يقول قشوع: «وأخيراً جاء اليوم الذي انتظرت طويلاً، وعن طريق الصليب الأحمر الدولي انتقلت إلى المملكة المتحدة وهناك بدأت رحلة حياة جديدة كنت فيها ذاك الإنسان الذي يريد أن يعتمد على نفسه.
وبفرحة لم تفارقه طيلة اللقاء يكمل عون الله حديثه فيقول: «غادرت لبنان في بداية التسعينيات وثقت لجوئي وبقيت بعدها لعدة أشهر في مركز للمكفوفين، ثم انتقلت العيش لوحدي وطلبت اللجوء الإنساني فطلب مني حينها الخضوع إلى دورة تأهيل وفعلت».
ويتابع مبتسماً كلما ذكر إنساناً كان صاحب فضل عليه، هو لا ينسى أدق التفاصيل ولا اسما لشخص مر في حياته وكان له فضل عليه والساعات ولا التواريخ: «أذكر اسم الموظفة الاجتماعية إليزابيت غرين هاوس التي ساعدتني كثيراً كي أبدأ حياتي في عاصمة الضباب، علمتني أطبخ وأجتاز الشارع، واستئجار بيت وبعد أشهر من التدريب على إشارات المرور استطعت أن أتجول بمفردي على الرغم من لغتي الإنجليزية التي كانت بدائية آنذاك «.
ويتابع: «خضعت بعدها لدورة تأهيلية، بدأت رحلتي مع اللغة الإنجليزية دخلت الجامعة في مدينة هرفيد لدراسة اختصاص العلاج الفيزيائي وعملت كمعالج فيزيائي في مصح خاص للقوات العسكرية البريطانية حيث كان هذا المكان يستقبل مرضى من الوطن العربي ومنهم عسكريون من الجيوش العربية ومن الخليج العربي، وبعد العمليات الجراحية كنت أقوم بمعالجتهم وساعدتني لغتي العربية على العمل هناك».
ويستطرد: «قصتي مع العلاج الفيزيائي بدأت يوم تعرفت على مكفوفين ومكفوفات إنجليز وصار عندي صداقات وشاركت معهم في مخيمات وتعرفت على رجل فاضل إنجليزي اسمه ليزريس وهو طبيب علاج فيزيائي أحببته وتعلمت منه الكثير من أمور يحتاجها المكفوف».
من العلاج الفيزيائي إلى الترجمة
ويضيف «ومن هناك تعرفت على الترجمة فأحببتها وشعرت بأنها ستكون إلى جانبي في غربتي، كان المستشفى بحاجة لي كمترجم بين المرضى العرب من جهة، ومن جهة ثانية بين الفريق الطبي، انتقلت بعد عامين إلى جامعة في وسط لندن وحصلت على إجازة باللغتين الفرنسية والإنجليزية ونلت منحة لإكمال رسالة الماجستير في اختصاص الترجمة وأعددت رسالتي في موضوع «التواصل اللغوي ما بين الأجناس والخلفيات الثقافية».
فطرح علي المشرف آنذاك أن أدخل مبادئ على أصول الفقه اللغوي ففعلت بجدارة ولله الحمد ولا زالت تستخدم هناك بإسمي وهي «مبادئ قشوع للفقه اللغوي»، ويضيف «كنت أقرأ الكتب الإنجليزية من خلال الماسحة الضوئية «سكانر» ومن ثم أنقل هذا المسح الضوئي إلى الكمبيوتر وعن طريق البرنامج الصوتي كانت تتحول الكلمات من صورة ضوئية إلى أحرف بدقة نقل عالية تقريباً، إنما المسألة هذه كانت بحاجة إلى المزيد من الوقت مقارنة مع غيري».
لم يتوقف عون الله عن المثابرة نجح في الترجمة بقي عليه أن يجد العمل ففي فترة قصيرة تلقى اتصالا بعد أن قدم رسائل عمل «وقالوا هل تجيد العربية؟ واستدعوني وأجروا معي مقابلة فأنجزتها على الفور لحسن الحظ كانت المقابلة جزء من مباشرة العمل وكانت المتهمة سيدة سودانية ساعدتهم في ترجمة المعلومات فتم إخلاء سبيل المرأة السودانية آنذاك وباشرت معهم العمل فورا».
صعوبات في العمل اليومي
«هي صعوبات ملموسة « يشرح عنها»، مجرد دخولي لندن في بدايات التسعينات اعتمدت على الجهاز الناطق في الكمبيوتر الأمر الذي سهل علَى الكثير إضافة إلى المكتبة الصوتية التي لعبت دورا هاما كما يساهم اليوم التقدم التكنولوجي الحديث بوجود «خرائط غوغل» وغيرها من التقنيات التي ترشدني بالصوت إلى الأماكن».
يعتز عون الله بتعلم ثقافته في بلاد الغرب وعن كيفية ممارسة حياته في الخارج يقول: «أسوة بغيري هو عمل بلا شك متعب جدا خصوصا أنه يتطلب حرفة الإنسان ودقته في نقل المعلومة».
ويردف: «حياتي تبدأ منذ الثامنة صباحاً ولغاية الرابعة بعد الظهر وبسبب إكرام الله على بالزوجة الصالحة حيث التقيتها عام 2000 تزوجت منها فبدأت تأخذ عبئاً كبيراً عني لجهة عملي اليومي».
الصحافة
إلى جانب كل ما تقدم كان لعون الله دوره في الصحافة كيف؟ حول ذلك يتابع: «في نوفمبر من عام 1991 أجريت مقابلة في مكتب اللغة العربية الخاص بإذاعة البي بي سي كي أساعدهم باللغة العربية لتقل احداث حرب الخليج آنذاك».
ويضيف «طلبوا مني متابعة الأحداث عبر شاشة التلفاز وهنا كانت الصعوبة «يتابع « هناك تعرفت على شخص كان يعمل في صحيفة «الغارديان»، بدأت العمل بالقصة القصيرة كصحفي متدرب بالإذاعة لكن أيضاَ لم يتلاءم العمل مع وضع المكفوف ومنها انتقلت إلى الإعلام المكتوب ونشر لي بعض المنشورات في «الغارديان» كما في صحف محلية تابعة للبلدية فانخرطت باللغة الإنجليزية لمجتمع أصلاً أنا لم أعرف عنه شيئا « كما يقول عوني.
لماذا غادرت لبنان؟ يستذكر الرجل بمرارة حادثة أزعجته فيروي عنها قائلا: «ذات يوم قدمت لطلب وظيفة على الجامعة اللبنانية ورفضني أحد الأساتذة «شحطني من المقابلة» وأهانني الأمر الذي زاد من إصراري على الهروب من لبنان.
قشوع يقوم بأعماله بيده في كثير من الأحيان حتى في بيته الزوجي «أقوم بمساعدة زوجتي التي أدين لها بالفضل في كل أعمال المنزل والطبخ والتنظيف وأعتني بالورود هنا في حديقتي اللبنانية التي سميتها ليلي غاردن وأهتم بها».
ويختم: «ميرفت زوجتي كانت المعين الاول في بداية حياتي العملية ويعود الفضل لله ولها في نجاحي.