يواجه الاقتصاد السوداني خطر الانهيار الكامل، في ظل ارتفاع معدلات التضخم إلى أكثر من 270 بالمئة، والتدهور المريع للجنيه الذي وصل سعره في السوق الموازي إلى 310 مقابل الدولار الواحد الأسبوع الماضي، قبل أن يرتفع قليلا في نهاية الأسبوع.
وزاد ذلك من حدة الارتفاع في أسعار الخدمات والسلع الأساسية، في بلد يعيش 65 بالمئة من سكانه تحت خط الفقر، ويعتمد في أكثر من 60 بالمئة من احتياجاته على الأسواق الخارجية.
وقال اقتصاديون لموقع «الحياة نيوز» إن الاقتصاد السوداني يحتاج إلى إعادة هيكلة كاملة للخروج من أزمته الحالية، وأشاروا إلى أن نحو 82 بالمئة من الشركات العامة خارج مظلة وزارة المالية، مما يعني أن الميزانية بنيت على 18 بالمئة فقط من الإيرادات المحتملة.
وطالب الاقتصاديون بالإسراع في تغيير العملة أو سحب الفئات الكبيرة لامتصاص السيولة الهاربة خارج النظام المصرفي، التي تقدر بنحو 90 بالمئة، أي نحو 90 تريليون جنيه، وتقليص الإنفاق الحكومي والسيادي من أجل وضع الاقتصاد في مساره الصحيح.
ميزانية 2021
وشددت وزيرة المالية هبة محمد علي على أن الموازنة الجديدة تم تمويلها بإيرادات حقيقية مع تقليل الاستدانة من البنك المركزي، من 200 إلى 52 مليار جنيه، مما يؤكد التزام الوزارة برفع عبء التضخم عن المواطن وتثبيته عند 95 بالمئة بنهاية العام، مقارنة مع 270 بالمئة حاليا.
لكن، بالنسبة للخبير الاقتصادي عضو اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير محمد شيخون، فإن ميزانية 2021 «اعتمدت بشكل أساسي على جيب المواطن، حيث تغطي معظم الزيادة المتوقعة في مواردها من الزيادة الكبيرة التي فرضت على المحروقات والمقدرة بنحو 300 مليار جنيه».
ويرى شيخون، الذي تحدث إلى موقع «سكاي نيوز عربية» أن «الميزانية أخفقت في العديد من الجوانب، حيث رفعت معدلات الإنفاق السيادي والأمني والحكومي الاستهلاكي الذي استحوذ على أكثر من 60 بالمئة، وهي نسبة عالية مقارنة بمخصصات قطاعات التعليم والصحة والتنمية التي كان يجب أن تحظى بنصيب أكبر».
الداخل قبل الخارج
وتتفاقم الأزمات في متطلبات الحياة اليومية من خبز وغاز طبخ ووقود في ظل ارتفاع يومي في أسعار السلع والخدمات.
ويعزي الاقتصادي يسن حسن عضو لجنة حماية المستهلك السودانية الأزمة الحالية، إلى «الارتباك الكبير الذي صاحب أداء الحكومة الحالية، وتركيزها على البعد الخارجي على حساب المشكلات الداخلية».
ورغم إقراره بالإنجازات الكبيرة التي تحققت على صعيد العلاقات الخارجية، فإن حسن يشير إلى أن «ذلك لم يكن كافيا في ظل إهمال ترتيب البيت الداخلي».
ويقول حسن لموقع «الحياة نيوز» إن «المواطن السوداني مدرك تماما أن الثورة ورثت عبئا اقتصاديا ثقيلا ووضعا فاسدا، لكن الحكومة الانتقالية لم تضع سياسات أو خطط مقنعة ذات مردود اقتصادي ملموس»، وإن «رفع الدعم أو تحرير الاقتصاد لا يتم بالطريقة الحالية التي تتبعها الحكومة، بل يجب أن يكون ضمن حزم اقتصادية مدروسة وواضحة تقدم للمواطن بشفافية كاملة».
ويرى الاقتصادي أن «الحل يكمن في تشكيل حكومة إنقاذ اقتصادي ذات برنامج وقعي وواضح المعالم، وتكوين مجلس تشريعي قادر على محاسبة الجهاز التنفيذي وتقويمه».
ويشخص رجل الأعمال دفع الله عبد الله المشكلة في «فقدان الحكومة لبوصلة الحلول»، ويقول إنها «لم تستطع حتى الآن الاختيار بين النظام الحر أو الاشتراكي أو المختلط.
ويرى عبد الله في حديثه لموقع «الحياة نيوز»، أن «ضعف الطاقم الاقتصادي وعدم استشارة أهل الشأن وزيادة الأجور دون توفير موارد حقيقية، كلها أسباب أدت إلى التدهور الاقتصادي الحالي ورفع معدلات التضخم».
وفي المقابل، لا يجد عبد الله مبررا كافيا لرفع الدعم عن الوقود، إذ يشير إلى أن «الاستهلاك الأمني والحكومي المحاني يستحوذ على 75 بالمئة من استهلاك المحروقات، في حين يبلغ الاستهلاك الزراعي والاستهلاك الفردي وغيره 25 بالمئة فقط».
ويؤكد أن أزمتي الخبز والغاز سببها ضعف السياسات وسوء الإدارة، إذ يبلغ استهلاك السودان من القمح سنويا نحو مليوني طن، ينتج 60 بالمئة منها محليا ولم تستطع الدولة توفير الموارد اللازمة لسد النقص البسيط بحسب تعبيره، كما فشلت في توفير مواعين التخزين اللازمة لضمان تدفق إمدادات الغاز للمستهلك.
هل تتغير عملة السودان؟
ويعتبر تدهور قيمة العملة المحلية واحدا من أهم أسباب التدهور الاقتصادي، حيث تراجع الجنيه خلال العام الماضي بنحو 300 بالمئة، ويتم تداول الدولار الواحد حاليا عند حدود تتراوح بين 290 و300 جنيها بعد أن بلغ الأسبوع الماضي 310 جنيهات، قبل أن يتراجع قليلا في اليومين الماضيين.
ويعزي المراقبون الانخفاض الكبير في سعر الجنيه إلى المشكلات الهيكلية التي يعانيها الاقتصاد الوطني، وخلل الميزان التجاري بسبب الاعتماد الكبير على الواردات التي بلغت وفقا لتقديرات غير رسمية نحو 7 مليارات دولار في 2020، وضعف الصادرات التي قدرت بنحو 3 مليارات دولار في العام نفسه، إضافة إلى المضاربات التي تقوم بها بعض الشركات الكبرى التي يتبع معظمها للنظام السابق.
ووعدت وزارة المالية بتفعيل قوانين صارمة للحد من المضاربين في سعر العملة بالتعاون مع الأجهزة المختصة، بجانب تحسين الأداء مع القطاع الاقتصادي، وقالت وزيرة المالية السودانية في تصريحات إعلامية إن توحيد سعر الصرف مهم خاصة أن هناك احتياطات وتدفقات حال وظفت ستساهم في معالجة الاقتصاد.
لكن شيخون يتوقع مزيدا من الانفلات في أسعار صرف الجنيه السوداني في ظل الضغوط التي تتعرض لها الحكومة من قبل المؤسسات المالية المطالبة بتعويم الجنيه، مما يعني عمليا خفض السعر الرسمي البالغ حاليا 55 جنيها للدولار.
ويشير شيخون إلى ضغوط مماثلة عند إعداد ميزانية 2020 رفضتها اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير، وطالبت بعدم المساس بالدولار الجمركي والدعم المقدم للسلع الأساسية، لكن الحكومة رضخت لتلك الضغوط وخفضت السعر الرسمي حينها من 18 إلى 55 جنيها للدولار، مما انعكس سلبا على الأداء الاقتصادي ورفع أسعار السلع الأساسية بشكل صارخ، وبالتالي خفض الإنفاق الاستهلاكي.
ويتفق الاقتصادي يسن حسن مع ما ذهب إليه شيخون، مشيرا إلى أن انخفاض سعر الجنيه جاء بسبب ضعف الإنتاج والصادرات وسوء السياسات المالية، ويتوقع استمرار تدهور الجنيه إلى حين وضع سياسات اقتصادية قوية وفاعلة.
ويرى حسن أن «الحل يكمن في وقف بيع الذهب، وتوجيهه نحو بناء احتياطي في البنك المركزي لدعم موقف العملة المحلية، وهو ما سيؤدي إلى استعادة الثقة في الجهاز المصرفي ويمكّن من جذب تحويلات المغتربين والتدفقات الاستثمارية، وبالتالي تحسين سعر صرف العملة المحلية تدريجيا».
ومن جانب آخر، يلقي دفع الله عبد الله باللوم على السياسات النقدية، ويعتبرها سببا مباشرا في الانفلات الحالي في أسواق الصرف وليس الموردين، ويقول إن «الطريق الوحيد لإنقاذ الجنيه هو تغيير العملة والسيطرة على تجارة الذهب ووقف المضاربات اليومية».
800 أم 50؟
وتتضارب التقديرات المتعلقة بالشركات التابعة للقوات المسلحة والأجهزة الأمنية التي أسسها النظام السابق ولا تخضع لولاية وزارة المالية، وبالتالي لا تدخل ضمن أرقام الميزانية، وفيما تشير بعض الإحصاءات إلى أنها أكثر من 800 شركة تعمل في مختلف القطاعات، تقول وزيرة المالية إنها في حدود 50 فقط.
وفقا لأستاذ الاقتصاد في الجامعات السودانية عبد الوهاب بوب، فإن «الخلل الأكبر في ميزانية 2021 يتمثل في اعتمادها على 18 بالمئة فقط من موارد البلاد بسبب فشل الحكومة ومؤسسات قوى الحرية والتغيير في إدخال الـ82 بالمئة التي قال رئيس الوزراء عبد الله حمدوك في تصريحات سابقة إنها لا تزال خارج ولاية وزارة المالية للمال العام».
لكن وزارة المالية أكدت أنها قدمت تصورا كاملا للإصلاحات المطلوبة لقطاع الشركات الحكومية، بما فيها المؤسسات العسكرية والنظامية، مقرة أن «تلك الشركات تواجه مشاكل تتمثل في ضعف الحوكمة وعدم الشفافية في تعيين مجالس الإدارات ومتابعة ومراقبة الأداء، وتضارب المصالح بين أدوار الوزرات فيما يخص سلطة الإشراف الفني ومجالس الإدارات».
وفي ذات السياق، يقول شيخون إن اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير اقترحت على اللجنة المركزية لقوى الحرية والتغيير معالجة الشركات التابعة للجيش والقوات الأمنية على مرحلتين، تتضمن الأولى حصر وتحديد الشركات العاملة في القطاعات التجارية غير العسكرية، وتأهيل وزارة المالية والقطاعات المعنية لتصبح قادرة على استيعاب تلك الشركات، أما المرحلة الثانية فتشمل تسجيل جميع الشركات لدى وزارة العدل وحوكمتها وإصلاح ملفاتها الضريبية وإخضاعها لطرح عام، لتتحول إلى شركات مساهمة عامة وفقا لضوابط الشفافية والمعايير العالمية، على أن تترك الشركات العاملة في الجوانب والصناعات العسكرية البحتة تحت مظلة المؤسسة العسكرية.
ويبدو بوب، في حديثه لموقع «سكاي نيوز عربية»، غير مقتنع بالمبررات التي تسوقها الحكومة وحاضنتها السياسية في هذا الجانب، ويقول إن «الفشل في إدخال تلك الشركات تحت مظلة وزارة المالية يعني المضي نحو الانهيار وفقدان أي فرصة للإصلاح الاقتصادي».
ويرى أن ذلك «يشكل فشلا واضحا في تحديد حجم الاقتصاد بصورة فعلية، وحتى إذا كان لدى الحكومة معلومات كافية، فهناك مستوى عال من انعدام القدرات الإدارية والكفاءة المعرفية لعلاج الأمور».
وينصح بوب بمعالجة هذه الاختلالات الهيكلية من خلال الحوار الشفاف وبناء الثقة بين العسكر والمدنيين، بما يؤدي إلى إصلاح فاعل وملموس يخرج الاقتصاد من كبوته الحالية.